حرائق القدس: هل تشعل إسرائيل نيرانها بنفسها!
حرائق ضخمة تجتاح جبال وغابات القدس ولاتزال مستمرة حتى لحظة كتابة هذا المقال ، الامر الذي يردنا للسؤال حول الأسباب الكامنة وراء هذا التفشي المستمر للنيران!.
توطئة
في الحقيقة وللاجابة عن سؤال لماذا يحدث ذلك لابد ان نفهم بداية كيف تكشف لنا الطبيعة عن وجه بغيض اخر من اوجه الاحتلال ! او عن ظاهرة استعمارية أو حتى قل قصة طويلة من السياسات الاستعمارية. فمنذ بداية الاحتلال الإسرائيلي، مورست سياسات تشجير ممنهجة تحت شعار "تحويل الأراضي إلى مساحات خضراء"، لكنها في جوهرها كان مجرد سياسية تشجير استعماري حملت معها بذور الدمار. أشجار صنوبر وسرو مستوردة، غُرست في تربة لم تعرفها من قبل، تحوّلت مع الوقت إلى قنابل موقوتة. هذه الغابات المستَوطَنة، تجيب عن سؤال " لماذا تزرع اسرائيل اشجار الصنوبر بكثافة في فلسطين المحتلة بخلاف أشجار الزيتون والصبار الأصلية التي صمدت قرونًا؟" بالطريقة الصعبة ! لانها تتحول إلى حطب جاف بأسرع ما يُتخيل مع ارتفاع درجات الحرارة، لتصبح شرارات الحرائق الموسمية كارثة لا تُطاق."هذه الغابات المستوردة لم تكن مجرد مشروع بيئي، بل كانت جزءًا من سياسة استعمارية تهدف إلى إخفاء التراث الفلسطيني وتدمير البيئة الأصلية"
التشجير كأداة استعمارية
في أواخر الفترة العثمانية تقريبا بدأت عمليات التشجير الحرشي في فلسطين ، ولكنها أصبحت أكثر وضوحًا بعد بداية الانتداب البريطاني. في عام 1920، بدأ الصندوق القومي اليهودي حملات تشجير واسعة النطاق بهدف زرع أشجار غير محلية في مناطق متعددة من فلسطين، تحت إشراف الجمعيات الصهيونية مثل الجمعية اليهودية لاستعمار فلسطين. أحد أهداف هذه الحملات كان تغيير معالم الأرض الفلسطينية، بحيث تُغطى الأشجار المستوردة على الملامح الأصلية للأراضي الفلسطينية مثل المدرجات الزراعية والمساكن الريفية. على سبيل المثال، كانت غابات "بين شيمن" و"كريات عنافيم" من بين أولى المشاريع التي تم تنفيذها في مناطق قضاء الرملة، وهدفها كان تحويل الأراضي الزراعية الفلسطينية إلى غابات صنوبرية وكأنها أراضٍ غير مأهولة.
الهدف من التشجير الاستعماري باختصار :
إخفاء المعالم الفلسطينية، التي تدلل على انه كان هنالك وجود للسكان الفلسطينيين في تلك المناطق. والفكرة كانت أن غطاء الأشجار المستوردة، وخاصة الصنوبر، سيخفي آثار القرى الفلسطينية المهجّرة، بالإضافة إلى إنشاء بيئة ودودة ومألوفة للمستوطنين الجدد، مما يسهل عليهم التكيف مع الأرض. المنهوبة.
كشف المستور
إن من أكثر الأبعاد المثيرة للاهتمام في هذه الظاهرة هو الرابط بين التشجير الاستعماري وحرائق الغابات التي اجتاحت بعض المناطق الفلسطينية المحتلة في السنوات الأخيرة.
فلاا تكشف حجم الكارثة البيئية فحسب بل تُجبرنا على مواجهة مفارقة مأساوية: فبينما تلتهم النيران الأشجار المُستَورَدة ، تبدأ معالم حياة فلسطينية قديمة بالظهور من تحت الرماد. ففي حالات سابقة ظهرت فجأةً آثارٌ كانت مختفية لعقود: بيوت حجرية بسيطة تعلوها أقواس، أحواض لجمع المياه، وحتى "طوابين" طينية ما زالت تحتفظ بشكلها رغم الإهمال. الأكثر اثارة هو تلك المدرجات الزراعية التي صمدت لقرون، تتراصف بحِرفية على سفوح التلال وكأنها تسرد تاريخ أرضٍ حُوربت حتى في ذاكرتها.
فتحولت هذه الكارثة إلى نافذة غير متوقعة على الماضي. فالنيران التي التهمت "الغابات الاستيطانية" كشفت فجأةً عن هندسة زراعية فلسطينية فريدة، كانت الغابات قد طمستها. كأن الأرض ترفض أن تموت قصتها تحت غطاء أخضر مزيف، فتنفض عن جسدها رماد الحرائق لتُظهر للعالم كيف تعامل أبناؤها الأصليون مع تربتها قبل قرون: نظام ريّ يعتمد على مياه الأمطار، وتقسيم للأراضي يضمن استدامتها، وعلاقة حميمة بين الإنسان وبيئته.
هذا المشهد المركب يطرح أسئلةً : لماذا تتحول مشاريع التشجير الاستعمارية إلى وقود للحرائق كل صيف فتظهر هذه الآثار الفلسطينية العتيقة بالذات حين تتراجع سيطلة المحتل الرمزية على الأرض؟
النيران، رغم فظاعتها، تكشف أن جذور الشعب الفلسطيني في أرضه أعمق بكثير من أشجار مستوردة حاولت طمسها.
اللعب بالنار
- زرع الأشجار غير المحلية (التحريج الاستعماري):
- إهمال الصيانة والرعاية:
- الاستيطان والتوسع العمراني:
- التهجير القسري والتشجير فوق الأراضي الفلسطينية:
سياسة التشجير التي اتبعتها إسرائيل لم تكن بيئية بقدر ما كانت سياسية، إذ هدفت إلى محو الوجود الفلسطيني من الجغرافيا والذاكرة. بعد تهجير القرى الفلسطينية وتدميرها في نكبة 1948، تم زرع غابات فوق أنقاضها، كما حدث في "غابة لُطرون" و"غابة بن شيمن" وغيرها، بهدف طمس معالم القرى المهجّرة واستبدالها بمعالم صهيونية خضراء تُظهر المشروع الاستيطاني بمظهر "متحضر". لكن هذه الغابات لم تكن منسجمة مع التربة أو المناخ الفلسطيني، مما جعلها عرضة للاحتراق السريع، خصوصًا في مواسم الجفاف والحر. وهكذا، فإن ما زُرع لمحو أثر الفلسطينيين، أصبح اليوم مصدر تهديد بيئي لإسرائيل نفسها، ويكشف عن خلل بنيوي في السياسات الاستعمارية التي تسعى إلى التحكم بالطبيعة كما تسعى إلى التحكم بالبشر.فلسطين لن تموت تحت غطاء اخضر
ما حدث في هذه البلاد لم يكن مجرد زراعة أشجار لـ "تحسين البيئة"، بل كان محاولة طمس هوية واخفاء معالم جريمة وغطاءً أخضر يُخفي تحت ظلاله جرحًا عميقًا. تلك الغابات المُستورَدة لم تُزرع إلا لتدفن تاريخًا: بيوتًا حجرية بناها الفلسطينيون، ومدرجات زراعية حفرتها أياديهم منذ قرون، وحتى طرقًا كانت تربط بين قراهم قبل أن تُباد. السنوات أثبتت أن هذه الأشجار لم تكن صديقة للتربة ولا للسماء، فتحولت مع ارتفاع حرارة الجو إلى شعلات متكررة، لكن المفارقة أن النيران نفسها كشفت ما حاول المحتل إخفاءه: الأرض ترفض النسيان.
كل حريق يُشعل الذاكرة من جديد. بين الرماد تظهر أحواض الري القديمة، وتلمع بقايا جدران البيوت المهدمة، وتنكشف حكايات أرضٍ عاشت قبل أن تأتي الجرافات والصنوبر. نعم، حاولوا تغيير وجه فلسطين، لكن كيف تُمحى قصص شعبٍ ظلّ يزرع بأظافره في كل صخرٍ؟ الحرائق جاءت لتُذكر العالم بأن الأرض حين تُجرح تدفن أسرارها لوقتٍ، لكنها لا تتخلى عنها.