.png "أوغاريت")
الارض من الفضاء
 |
| صورة وكالة ناسا من الموقع الرسمي لكوكب الارض ليلا |
في الحقيقة صورة الأرض من ناسا ليلًا لم تكن مجرد صورة، بل قصيدة بصرية عن الانسان فالأرض في الليل ليست كوكبًا، بل كائن حي في هذا الفضاء العميق يتنفس بأنوارنا، ويحمل في كل ومضةٍ منه سرًّا وينبئ عن اخبار واحوال المكان. وفي عجالة لنأخذ جولة في هذه الخارطة ونتعرف عن احوال وانباء ما كنا نظن ان نعرفها من مجرد صورة ! :
ضوء الرفاهية... وظلام الفقر
من نظرة اولى للخارطة الضوئية ولصور الفضاء الحقيقي ستلاحظ كيف ان أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، تتوهجان بأنوار كثيفة، تحكي عن حياة عامرة بالمدن والمصانع والطرق السريعة. لكن بمجرد أن تنزاح العدسة نحو إفريقيا ، تغرق الصورة في السواد. لا كهرباء، لا بنية تحتية، لا أثر يذكر للحضارة الرقمية الحديثة. هنا لا يسكن الظلام ليلا فقط، بل يقيم نهارا أيضا.المشهد ليس مجرد خريطة ضوئية او صور الفضاء الخارجي ، بل شهادة صامتة على التناقض الأقسى: أضواء ترفع شعار التقدم، وأماكن تدفن تحت تراب الإهمال. النور هناك ينساب كأنهار من ذهب، أما هنا فيتجمد الظلام كحبر أسود يكتب سطورا من النسيان. الأرض نفسها، لكن البشر ليسوا سواء.
 |
| اوربا وافريقيا كما يظهران ليلا بصورة جوية |
النفط الذي يُضيء
الاضاءة في الخليج تظهر الفارق الناتج عن التطور بسبب الوفرة النفطية ،فيشع النور ليس فقط من ناطحات السحاب ومراكز التسوق، بل أيضًا من أعمدة اللهب التي تتصاعد من حقول النفط، فيما يُعرف بـ"شعلات الغاز المحترق". هذا النور يحمل دلالات اقتصادية وسياسية،و يذكّرنا أن موارد الطاقة في قلب النزاعات والتفاهمات في الشرق الأوسط.
 |
| الخليج العربي وحقل الغوار النفطي في الاحساء |
النيل المشع بالحياة
كأفعى ضوئية تشق العتمة يتلوى نهر النيل على طول مصر من اقصاها لاقصاها ، مشيرًا إلى أماكن تمركز الحياة منذ آلاف السنين. القاهرة والإسكندرية ومدن الدلتا تشع نورًا يدل على كثافة سكانية، وحولها الظلام يبتلع الصحراء اللامتناهية. لا تزال الحضارة تسير على درب النهر، كما فعل الفراعنة من قبل. تظهر هذه التفاصيل بوضوح في صورة الأرض ليلًا التي أصدرتها ناسا، كأنها خريطة للروح المصرية القديمة وليست مجرد صور لكوكب الأرض من الفضاء !
 |
| النيل كما يظهر من الفضاء بصورة ليلية |
سوريا في العتمة
لاحظ كيف تنبئ صورة واحدة عن الوضع السياسي في بلد كسوريا مثلا فالفرق بين صورة سوريا قبل الحرب او في بدايتها وبعدها صارخ. مدن كاملة كانت تنبض بالحياة أصبحت مظلمة تمامًا. دمشق، حلب، دير الزور... كلها دخلت في سبات قسري. في عالم تُقاس فيه الحضارات بالضوء، تبدو سوريا اليوم كمن أُطفئت ، كذلك يمكن ملاحظة ذلك بقوة في صور حلب كبرى مدن سوريا وكيف اختلفت انوارها ما بين اعوام 2012 و2016 خلال الثورة والحرب .
 |
| حلب في بداية الحرب |
 |
| صورة جوية مضيئة لحلب بعد نحو عامين من الحرب |
 |
| حلب في العام 2016 بعد نحو خمس سنوات من الحرب في صورة ناسا |
الكوريتان...المثل الصارخ
تقريبا هنا تظهر واحدة من اعظم الامثلة على الفرق في صورة ناسا الجوية الليلية لكوكب الارض والتي تعتبر من احدث الصور لكوكب الارض بين منطقتين يشتركان بالجغرافيا ويختلفان بالسياسة حيث تبدو كوريا الجنوبية وكأنها لوحة إعلانية مضاءة. مدنها وبحارها وأراضيها كلها مضيئة. بينما في الشمال، تسود العتمة إلا من ومضة باهتة في بيونغ يانغ. حتى البحر بين الكوريتين تُضيئه قوارب الصيد الجنوبية، كأن النور نفسه يرفض عبور الحدود. الخط الفاصل بين الدولتين يبدو كأنه مرسوم بشريط مظلم في وسط الضوء.
 |
| كوريا الجنوبية والشمالية والفرق بينهما كما يظهر في صورة ناسا |
برلين...الانقسام الذي لازال يُرى
رغم مرور أكثر من ثلاثين عامًا على توحيد المانيا و سقوط جدار برلين، إلا أن الصورة تكشف مفارقة مذهلة:فالجزء الشرقي الذي كان تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي لا يزال يستخدم مصابيح غازية صفراء، بينما الجزء الذي كان تحت سيطرة الحلفاء يعج بأضواء LED البيضاء. انقسام الماضي لا يزال يُشاهد من السماء، رغم أن الأرض تجاوزته سياسيًا.
 |
| برلين الشرقية وبرلين الغربية والفرق بينهما في الاضاءة بصورة ناسا |
كلمة اخيرة
في عالم يتباهى بالمزيد من التواصل، تظهر هذه الصورة ولو بوصفها كواحدة من اجمل الصور الفضائية للارض الا ان الهوّة تبقى سحيقة بين مناطق تُضيء كمجوهرات مبعثرة على جسد الكوكب، وأخرى تغوص في ظلامٍ يُشبه النسيان. من علو السماء، قد تبدو الأرض هادئة ككرة زجاجية مطلية بالأسود، لكنها في الحقيقة تتلوّى بألف قصصٍ مُختلفة: هنا تتألق مدن كعقود لؤلؤ، وهناك تنزف بقع سوداء كالجروح التي لم تُداوَ.
وهذا النور المُتلألئ في الغرب ليس مجرد علامة حضارة، بل إعلان صارخ عن فجوةٍ لا تُجارى. في الوقت الذي تُنفق فيه العواصم الكبرى الكهرباء كالماء لترسم لوحاتها الضوئية، تُطفئ قرى بأكملها مصابيحها مع غروب الشمس، ليس لأنها تختار العيش في ظلام، بل لأن الظلام هو الخيار الوحيد.
ربما علينا أن نتأمل هذه الصورة لا كخريطة جيوسياسية، بل كمرآة عاكسة لضميرنا الجمعي. الأرض نفسها تدور تحت أقدام الجميع، لكن البشر لا يتشاركون نفس السماء. الليل يوحّد الكوكب بلحافه الأسود، لكن الأضواء تُجزّئه إلى عالمين: مَن يملكون حق الإضاءة... ومَن يُحكم عليهم بالظلام.
ملاحظة :
 |
| غزة كما تظهر في صورة جوية ليلية قبل الحرب وبعدها |
المصدر :