recent
أخبار ساخنة

لماذا عليك أن تكتب ؟

الهروب الى الحياة 

في الأربعين، يظن المرء أنه وصل للعمر حيث يبدأ بوداع الأحلام أو على الأقل أحلامه هو، لكن التجربة التي صقلتها مرارة السنون وحلاوتها معًا أثبتت ألا نهاية مفترضة مرتبطة بسن طالما أنك تتنفس. الأربعين تبدو الآن وكأنها البداية الحقيقية لحكاية تبحث عن جسد. وكلمة السر في ذلك هي الكتابة! فالحروف التي نكتبها لا تشيخ، ولا تحاصرها أمراض الجسد. ربما يموت الإنسان إذا جف الحبر. سأستلهم ما قاله المبعوث رحمة للعالمين: "رُفعت الأقلام وجفّت الصحف". ببساطة: نحن ننتهي إذا جفّت محابرنا.

لماذا نكتب

الكتابة ليست هروبًا من الواقع، بل هي هروب إلى واقع نصنعه بأيدينا.

شخصيًا، حين منعني الاحتلال من التنقل، صنعت طرقًا من الحروف بين المدن. حين ضاقت علي الدنيا بما رحبت وقت المرض، بنيت قصورًا من الكلمات أتجول فيها دون عصا. حتى الإنسولين المصنع الذي يألفه جسدي الآن، لم يستطع أن يجفف المنابع، حيث تُنتج الأفكار وتقوم على قلمك آمرة لتقول له: قم واكتب.

يبدو الحديث أقرب للواقعية حين تربطه بالتجربة. تذكر آخر مرة قرأت فيها كتابًا لكاتب مات منذ قرون، ألم تشعر حينها وكأن الكاتب قريب لم يمت؟ فهو حي بكلماته! وذلك أن الكتابة ليست مجرد حديث عن الذات، بل هي إحياء لأسرار إنسانية تتوارثها الأجيال. نكتب لنمنح اليائسين خريطة للنجاة، ولنخبر التاريخ أننا مررنا من هنا.

ماذا لو لم يقرأ أحد ؟

المرض علّمني أن الحياة قصيرة جدًا لأن نسجنها في صمت. الاحتلال علّمني أن الكلمة سلاح لا يُصادر. وعليه، قررت أن أكتب. في العام 2020 كتبت في هذه المدونة للمرة الأولى قبل إغلاقها لاحقًا. في الحقيقة كانت تجربة جيدة لبعض الوقت، لكن يبدو أنني لم أكن أملك النضج الكافي لأمتلك مهارة الصبر. مللت سريعًا وتركتها، لكن سرعان ما ستعود الحياة لتلطمك مرة تلو الأخرى حتى إذا عدت إلى الأرض وتعبت، تذكرت أين تهرب وما السبيل إلى النجاة، فتعود لتكتب وتكتب. وهكذا عدت من جديد لإحياء هذه المدونة، فوجدت ضالتي، وظننت أن من الخيرية بين الناس أن نردّ الفضل إلى أهله، وعليه، فشكرًا للقلم.

أحيانًا، يهمس لي صوت: "ماذا لو لم يقرأ أحد ما تكتب؟". لا أملك إجابة واضحة وأراوح نفسي، لكنني أواسيها بالنهاية بالقول:

"حسنًا، المهم أنني قرأت نفسي لأول مرة".

الكتابة هي المرآة التي نرى فيها وجوهنا الحقيقية، بعيدًا عن أقنعة الواقع. إنها الطريقة الوحيدة التي تجعل منا بشرًا قريبين من الكمال حتى لو بأجساد مكسورة. ولن أكذب عليك: الكتابة لا تشفي الأمراض، ولا تعيد الفسحة الممنوعة، ولا التنقل المقيّد. لكنها تصنع معنى من الفوضى، وهي على الأقل شيءٌ ما في غمرة اللاشيء واللامنطق الذي نعيشه.

فلماذا نكتب؟

  • لأن الحروف تبقى حين يغيب كل شيء.
  • لأن الورقة لا تملّ منك، ولا تملّ من الإنصات.
  • لأننا نستحق أن نخلّد لحظة واحدة نشعر فيها أننا أحياء حقًا.
  • لأن العالم يحتاج إلى قصتك الخاصة، لا نسخة مكررة من الآخرين.
  • لأن أحدهم ذات يوم سيكون في مكانك حين كنت تائهًا، ربما يقرأه فيكون دليل عودة لروحه.
  • لأنك تخلّد نفسك في زمن العابرين، وما أكثرهم.
  • لأن الكتابة ليست رفاهية، بل نجاة.
  • لأننا ببساطة لا نُقهر طالما نكتب.

نحن العاديون

لأجل كل ذلك، وما فاتني غيره، أكتب. ولا تنتظر حتى تصبح كاتبًا عظيمًا. ابدأ من حيث أنت: من دم جراحك، من ضحكاتك المكبوتة، من تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد غيرك. ففي النهاية، الكتابة ليست حرفة الموهوبين فقط، بل هي شجاعة العاديين الذين يرفضون أن تموت أحلامهم في صمت.

google-playkhamsatmostaqltradent