recent
أخبار ساخنة

عملية أسر الضابط نسيم طوليدانو الملف الكامل

عملية أسر الضابط نسيم طوليدانو

 

ملاحظة تمهيدية:

يعتمد هذا النص، بكل ما فيه من تفاصيل دقيقة وسرد تحليلي موثق، على أطروحة علمية موسّعة بعنوان "الانتفاضة في الصحافة الفلسطينيةوهي ثمرة جهد أكاديمي للباحث الفلسطيني أحمد محمد أبو عامر. وقد جاءت هذه الأطروحة لتوثّق مرحلة مفصلية من تاريخ النضال الفلسطيني، مرحلة امتزجت فيها الإرادة الشعبية بالمقاومة المنظمة، والتضحيات الفردية بالتحولات السياسية الكبرى.

عملية اسر نسيم طوليدانو
صورة ارشيفية غير موثقة للجندي نسيم توليدانو


توطئة :  

لم تتخل المقاومة الفلسطينية يوما عن أسراها. عن أولئك الذين زُجّوا في الزنازين لأنهم رفضوا الذل وواجهوا المحتل، لم يُترَكوا خلف القضبان طي النسيان. كان تحريرهم دينًا في عنق كل من يرفع بندقية في وجه الظلم.
ومن رحم الانتفاضة الأولى (1987–1993)، خرجت محاولات نوعية لتحرير الأسرى عبر أسر الجنود الإسرائيليين ومبادلتهم، بعد أن أوصد الاحتلال أبواب التفاوض، وتمادى في سياساته العقابية بحق الأسرى المرضى وكبار السن.
وفي قلب تلك المرحلة، وقعت واحدة من أكثر العمليات حضورًا في ذاكرة الصراع ، أسر الجندي نسيم طوليدانو.


 لحظة كسر التوازن

رغم الضربات القاسية التي تلقتها المقاومة الفلسطينية عقب كل عملية أسر نفذتها، لم تفقد الأمل في تحرير الأسرى القابعين خلف قضبان الاحتلال. وظلّت استراتيجية "أسر الجنود" خيارًا حاضرًا في عقل المقاومة، حتى وإن كانت كلفته باهظة. وفي مقدمة هذه الجهود، برزت حركة حماس، خاصة بعد تدهور الوضع الصحي للشيخ أحمد ياسين، مؤسسها وقائدها الروحي، داخل سجون الاحتلال. ومع تكرار مماطلة السلطات الإسرائيلية في الإفراج عنه، قررت الحركة تنفيذ عملية نوعية جديدة تستهدف أسر جندي إسرائيلي في محاولة جريئة لتبادل الأسرى.


أسر طوليدانو والمطالب 


في فجر يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 1992، انطلقت خلية مكونة من أربعة شبان مقدسيين في مهمة محفوفة بالمخاطر، هدفها أسر أحد جنود الاحتلال. وعلى مقربة من منزل الضابط نسيم طوليدانو في مدينة اللد المحتلة، وبينما كان متجهًا إلى مقر سريته في حرس الحدود بمدينة رام الله، في حوالي الساعة الرابعة والنصف فجرًا، تمكنت المجموعة من مباغتته، وتجريده من سلاحه، واقتياده إلى مكان غير معلوم.

عند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، توجه اثنان من المقاومين الملثمين إلى مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في رام الله، وسلّما موظفة هناك رسالة تحمل توقيع "كتائب الشهيد عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة حماس، تُعلن فيها مسؤوليتها الكاملة عن العملية.

في بيانها التفصيلي، أوضحت كتائب القسام أن العملية نُفذت بدقة متناهية، وبحسب الخطة الموضوعة مسبقًا، وأرفقت صورة الهوية العسكرية للضابط الأسير، التي تحمل الرقم (199373679)، إلى جانب قائمة واضحة بمطالبها مقابل الإفراج عنه. وكانت أبرز تلك المطالب:

  • الإفراج الفوري عن الشيخ أحمد ياسين، خلال مهلة لا تتجاوز 72 ساعة، أي حتى التاسعة مساءً من يوم 16 ديسمبر.



  • التعهد بعدم إعادة اعتقال الشيخ ياسين، على أن يتم الإفراج عنه بحضور ممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر وسفراء كل من: مصر، فرنسا، السويد، وتركيا.


  • تحذير صريح لسلطات الاحتلال من أي مساس بحياة الشيخ ياسين، إذ اعتبرته الجهة الآسرة "خطًا أحمر" سيدفع الاحتلال ثمن تجاوزه غاليًا.


  • التزام متبادل من الجهة الآسرة بالإفراج عن الضابط فور تنفيذ المطالب.


  • بث مباشر عبر التلفاز الإسرائيلي لعملية الإفراج، أمام الشخصيات المذكورة، بما يضمن التوثيق العلني للتنفيذ والتعهدات.


اعتبر الباحث أحمد محمد أبو عامر أن هذه المطالب كشفت عن مستوى عالٍ من النضوج الأمني والسياسي والتفاوضي لدى المنفذين، مشيرًا إلى أن حماس قد راكمت تجربة ناضجة من عمليات الأسر السابقة. كما أن إشراكها لسفراء دول أوروبية في عملية الوساطة والإفراج أضفى بعدًا دوليًا مهمًا لقضية الأسرى الفلسطينيين، وربط مصيرهم بأعين المجتمع الدولي مباشرة.


صدمة داخل إسرائيل


استفاقت المؤسسة الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية على وقع الحدث، وقد شلّ الهلع مفاصلها. فخرج رئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين يعترف على الهواء مباشرة: "لا توجد لدينا أي معلومات تؤدي إلى استعادة طوليدانو." ورغم ذلك، قدّم مناورات إعلامية عبر التلفزيون الإسرائيلي، معلنًا استعداده لبدء مفاوضات إذا أثبتت الجهة الآسرة أن الضابط لا يزال حيًا، لكنه في الوقت نفسه رفض التطرق صراحة إلى إمكانية الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين.


في المقابل، التزمت كتائب القسام الصمت التام بعد إعلان مطالبها، ما زاد من حالة القلق داخل إسرائيل، وعجز استخباراتها عن اختراق جدار الصمت هذا. أحد ضباط الاحتياط الإسرائيليين طالب صراحة بإطلاق سراح الشيخ ياسين مقابل إعادة الضابط، وهو ما رُفض علنًا من قبل القيادي في حماس د. محمود الزهار، الذي شدد على أن ما حدث لم يكن "خطفًا"، بل "عملية أسر شرعية"، لها أهداف واضحة، تتعلق بالإفراج عن شخصية أسيرة تعاني من أمراض مزمنة، لا أقل ولا أكثر.


التصعيد الميداني الإسرائيلي

لم تمضِ ساعات حتى تحركت آلة القمع الإسرائيلية بشكل غير مسبوق. أغلقت قوات الاحتلال جميع المناطق المحتلة، ومنعت الفلسطينيين من التنقل عبر الحواجز أو السفر إلى الداخل، كما أغلقت المعابر الحدودية. نصب الجيش حواجز مكثفة في أنحاء الضفة وغزة، وشنت قواته سلسلة اقتحامات للمساجد، خاصة في غزة، بعد أن زعمت مخابرات الاحتلال أن الضابط قد يكون مخبأ في أحدها.

في صحيفة هآرتس، كتب المعلق العسكري زئيف شيف تحليلًا بالغ الدلالة، قال فيه:

"من الواضح أن حركة حماس قد غيّرت من طبيعة عملياتها، وأصبحت تستهدف من يرتدون الزي العسكري بشكل مباشر. هناك تطور واضح في قدرات التخطيط وجمع المعلومات لدى خلاياها، ما يعني أن إسرائيل أمام مقاومة باتت أكثر تنظيمًا واحترافًا."

 مماطلة اسرائيل وتنفيذ المقاومة لتهديدها


في مساء يوم الإثنين، 14 ديسمبر 1992، وبعد مرور أكثر من يوم على انتهاء المهلة دون تجاوب من حكومة الاحتلال، قررت المجموعة الآسرة، على مضض، تنفيذ تهديدها وتصفيه الضابط نسيم طوليدانو. القرار لم يكن عبثيًا، بل جاء بعد أن أيقنت المقاومة أن حكومة رابين لا تعير مطالبها أي اعتبار، بل اتخذت من عملية الأسر ذريعة لشن حملة اعتقالات وحشية في صفوف الفلسطينيين، دون أدنى نية للتفاوض.

 تم العثور على جثة الضابط نسيم طوليدانو قرب مستوطنة معاليه أدوميم، الواقعة على الطريق الرابط بين القدس وأريحا، حيث عثرت فتاة بدوية ترعى جمال عائلتها على الجثة في وادٍ منحدر على ارتفاع 311 مترًا، وذلك في الساعة الثامنة والنصف صباح يوم الاثنين.

وأفادت الإذاعة الإسرائيلية أن نتائج تشريح الجثة في معهد أبو كبير قرب تل أبيب أظهرت أن الوفاة حدثت بعد انتهاء المهلة التي حددتها حركة حماس للحكومة الإسرائيلية، حيث تعرض الضابط لطعنات متعددة؛ خمس طعنات في العنق وطعنة في الصدر، في الفترة بين الساعة 11 ليلاً من ليلة الأحد و3 فجراً من صباح الاثنين.

عملية اختطاف الجندي نسيم طوليدانو
اسر نسيم طوليدانو



ردود الفعل 


المقاومة : 

عقب تصفية الضابط، وقيام سلطات الاحتلال بحملة اعتقالات واسعة وتقديم تجهيزات لإبعاد المئات من الفلسطينيين، أكدت كتائب القسام في بيان لها أن تصفية طوليدانو جاءت بعد تأكدهم من أن العدو لا يريد تحقيق مطالبهم، بل كان يراوغ ويكسب الوقت، مشددة على أن رسالتهم كانت واضحة: "أطلقوا سراح الشيخ أحمد ياسين، وسنطلق سراح الضابط". كما حملت حماس الحكومة الإسرائيلية كامل المسؤولية عن تصفية طوليدانو، وحذرت من أي إجراءات انتقامية كالتهجير والإبعاد.

اسرائيل : 

بمجرد العثور على الجثة، اجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين مع وزرائه وأطلق تهديداته معلناً عن حرب شاملة على حركة حماس، قائلاً: "ليس أمام الإرهاب أي فرصة للانتصار، لا الحجارة، ولا الزجاجات الحارقة، ولا السكاكين، ولا جرائم القتل، ولا حماس، ولا فتح، ولا أحمد ياسين، ولا ياسر عرفات قادرون على طردنا من هنا". واعتبرت الحكومة الإسرائيلية حماس العدو الأول لـ"إسرائيل".

وفي أعقاب ذلك، شنت سلطات الاحتلال حملة اعتقالات واسعة شملت 1371 شخصاً مشتبه في تأييدهم لحركة حماس، تضمنت مداهمات وتفتيش المنازل وتوجيه الإهانات للسكان. وأعلن رابين في مؤتمر صحفي مفاجئ بحضور رئيس الأركان ووزير الشرطة والمفتش العام عن كشف خلايا تابعة لحماس في الضفة الغربية، واعتقال 1271 من أعضائها، مشيراً إلى أن من بين تلك الخلايا كانت الخلية التي نفذت عملية أسر وقتل الضابط طوليدانو.

نفذت إسرائيل تهديداتها وأبعدت 775 شخصاً من قيادات وعناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي بتاريخ 17/2/1997، حيث غادرت أكثر من ثماني حافلات الأراضي المحتلة متجهة إلى جنوب لبنان. وطالبت الحكومة الإسرائيلية القادة العسكريين بتحديد فترة الإبعاد، مع اشتراط ألا تتجاوز السنتين.

تباهى رابين بقراره اتخاذ الإبعاد الجماعي، مؤكداً قدرة "إسرائيل" على طرد مئات الفلسطينيين مستقبلاً، فيما وصف البريغادير أفرام سنيه، رئيس الإدارة المدنية السابق في الضفة الغربية، هذا الإجراء بأنه مسألة سياسية أكثر منها أمنية، معتبراً أن نجاح حماس استراتيجي، إذ إن كل شخص يُبعد يبرز ثلاثة جدد مكانه، كما وصفهم بـ"الفطريات".

ما بين خطف طوليدانو والسابع من اكتوبر 

لقد كانت عملية  أسر الجندي نسيم طوليدانو وما تبعها من إبعاد مئات الفلسطينيين إلى جنوب لبنان نقطة تحول مهمة  في الصراع، فقد أدركت إسرائيل أن المقاومة لم تعد مجرد حالة شعبية غاضبة، بل تنظيم قادر على التخطيط والردع. في المقابل، أثبتت المقاومة أن قضية الأسرى ليست شعارًا يُرفع في المسيرات، بل معركة فعلية تخاض بكل الأدوات الممكنة.

واليوم، وبعد عقود، ومع حرب السابع من اكتوبر التي كانت ايضا بنفس الدواعي مع اختلاف الحجم وردات الفعل الا ان تلك المشاهد - الابعاد في قضية نسيم طوليدانو او الحرب فيما تلا السابع من اكتوبر- ما تزال محفورة في الوعي الجمعي، كدليل على الثمن الباهظ الذي يدفعه الفلسطينيون في سبيل حريتهم، وكبرهان على أن معادلة "الجندي مقابل الأسير" يبدو ستظل حاضرة ما بقي الاحتلال، وما دام في الزنازين من ينتظر فجر الحرية.

google-playkhamsatmostaqltradent