recent
أخبار ساخنة

تحييد العملاء خلال الانتفاضة الاولى - ملف كامل

 في خضم الزخم الشعبي الذي اجتاح فلسطين خلال الانتفاضة الأولى،ظهرت واحدة من اصعب التحديات التي واجهت الشعب الفلسطيني داخليا ، تحدي "العمالة". لم يكن هذا المصطلح مجرد اتهام، بل صار حكمًا بالموت، يُنفّذ أحيانًا في الساحات العامة، أمام عدسات الكاميرات ووسط صمت يقطعه الهتاف. لم يكن التعامل مع هؤلاء سهلاً، لا قانونًا ولا أخلاقًا، في وقتٍ كانت فيه الثورة تُبنى بالحجارة، ودماء الشهداء تُكتب على الجدران.

تصفية العملاء في الانتفاضة الاولى
صورة رمزية لظاهرة تصفية العملاء خلال الانتفاضة الاولى


غير أن المسألة لم تكن فقط في تحييد المتعاونين، بل في كيفية إدارة هذه القضية الشائكة في مجتمع يعاني الاحتلال، ويخشى الانقسام، ويُدرك أن "العميل" قد لا يكون وحده المتورط، بل أن خلفه شبكة، وربما فخٌّ نُصب لأبناء الوطن أنفسهم. وفي هذه الدوّامة، حاول الاحتلال استغلال هذه الظاهرة لصالحه، وأخطأت المقاومة أحيانًا في التقدير، حتى جاء الوقت لإعادة ترتيب الأوراق، وإعلان ما يشبه "ميثاق الشرف الوطني" لمنع إراقة الدم الفلسطيني.


بداية الظاهرة

منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، سعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى إنشاء شبكة من المتعاونين تُعرف لاحقًا بـ"العملاء"، لتكون ذراعًا خفية لها في المجتمع الفلسطيني. هؤلاء لم يكن دورهم يقتصر على جمع المعلومات فقط، بل أصبحوا أدوات مباشرة لخدمة مصالح الاحتلال، بما يتعارض تمامًا مع تطلعات الشعب الفلسطيني.

طوال سنوات ما قبل الانتفاضة الأولى، بقي العملاء متخفين خلف ستار الانتماء الوطني، نتيجة لحالة الإجماع الشعبي الرافض للاحتلال وكل من يتعاون معه. ورغم تورط بعضهم في عمليات اغتيال ليلية ضد المناضلين، إلا أن وجودهم ظل هامشيًا ومحدود التأثير داخل النسيج المجتمعي.

لكن مع اندلاع الانتفاضة الكبرى عام 1987، برز خطر العملاء بشكل أكثر وضوحًا، وبدأ تأثيرهم السلبي يطفو على السطح، خصوصًا في ظل محاولاتهم خنق روح المقاومة عبر التنسيق مع سلطات الاحتلال. حينها، لم يعد السكوت ممكنًا، وبدأت التنظيمات الفلسطينية، بمساندة شعبية واسعة، حملة تحذير شديدة اللهجة. انطلقت هذه التحذيرات أولاً من منابر المساجد، ثم عبر بيانات صادرة عن الفصائل، حملت لهجة قاسية ضد كل من يثبت تعاونه مع الاحتلال.


من التوبة إلى التصفية

في المراحل الأولى من الانتفاضة، حاولت الفصائل الفلسطينية احتواء ظاهرة العمالة بالحوار والفرصة الثانية، فدعت العملاء إلى إعلان التوبة وتسليم أسلحتهم والعودة إلى صفوف شعبهم. لكن مع غياب آلية رادعة حقيقية، رفض العديد من المتورطين الاستجابة لتلك الدعوات، ما دفع الفصائل، وبدعم شعبي واسع، إلى التصعيد التدريجي، الذي بلغ أقصاه في بعض الحالات حد التصفية الجسدية، وهي إجراءات لاقت قبولًا عامًا في البداية، باعتبارها شكلًا من أشكال العدالة الثورية.

ومع تطور الانتفاضة وانتقالها من العفوية إلى التنظيم، ظهرت تشكيلات ميدانية تُعرف بـ"القوات الضاربة"، وهي أجنحة أمنية للفصائل تعمل ضمن اللجان الشعبية. أوكلت إليها مهام أمنية وعسكرية، كان من أبرزها ملاحقة العملاء والتحقيق معهم، وفرض العقوبات المناسبة، ولكن ضمن مراحل متدرجة تستند إلى مبدأ إعطاء فرصة للتوبة.

وكانت أبرز العقوبات المتبعة:

  • فرض الإقامة الجبرية على العميل، أحيانًا لفترات طويلة قد تمتد إلى عدة شهور، لمنعه من الحركة والتأثير على الآخرين.


  • مهاجمة منزله أو ممتلكاته باستخدام العصي والجنازير، وتحطيم الأثاث والمحتويات، في رسالة تحذير مباشرة.


  • إحراق منازل أو سيارات أو محال تجارية مملوكة له، باستخدام الزجاجات الحارقة، لتقويض وضعه الاقتصادي.


  • مطالبة أسرته بمغادرة الحي أو المخيم كعقوبة جماعية، ما يشكل ضغطًا نفسيًا هائلًا على العميل نفسه.


  • وفي الحالات التي تُثبت فيها خيانة صريحة وواضحة، يجري تنفيذ حكم الإعدام، سواء بالرصاص أو الطعن بأدوات حادة مثل السكاكين أو البلطات، مع تعليق الجثة أحيانًا على أعمدة الكهرباء - المزيد حول ظاهرة تعليق العملاء على اعمدة الكهرباء اقرأ ثقافة عواميد الكهرباء في الانتفاضة -  أو إلقائها في الطرقات إلى جانب أوراق تحتوي على اعترافات مكتوبة بخط اليد، تُعرض للجمهور كتوثيق لما ارتكبه العميل.




لكن لا يمكن إنكار أن هذه المرحلة شهدت الكثير من الانفعالات والممارسات الفردية، التي أفضت في بعض الأحيان إلى أخطاء جسيمة. فمن جهة، أدت بعض عمليات الاشتباه الخاطئ إلى الإساءة لعائلات بريئة لم يكن بينها وبين العمالة أي صلة. كما حدث في إحدى الحالات المؤلمة، حين توفي مواطن أثناء التحقيق معه بتهمة العمالة، ليتضح لاحقًا أنه كان يعاني من أمراض مزمنة لم يكن المحققون على علم بها، وقد ساهمت ظروف التحقيق في تفاقم حالته ووفاته. وقد قامت حركة حماس في حينه بدفع دية مالية إلى ذوي المتوفى اعترافًا بالخطأ وتحملًا للمسؤولية.

وفي مواجهة هذا الانفلات الجزئي، حاولت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ضبط إيقاع الظاهرة، فأصدرت من مقرها في تونس، عبر الرئيس ياسر عرفات، نداءً صريحًا للجان الشعبية بوقف عمليات تصفية العملاء، مع التأكيد على أن البت في مصيرهم يجب أن يكون من اختصاص القيادة العليا للانتفاضة، وليس بأيدي العناصر الميدانية. إلا أن هذا النداء لم يُنفذ بالكامل على الأرض، حيث استمرت بعض التشكيلات في تنفيذ عمليات خطف وإعدام خارج الإطار المركزي.


استغلال الاحتلال لملف العملاء ومحاولات خلق فتنة داخلية

لم يكن الاحتلال الإسرائيلي يتعامل مع ملف العملاء بمنطق أمني بحت، بل كان يرى فيه فرصة سانحة لبث الفرقة بين صفوف المجتمع الفلسطيني، وضرب نسيجه الداخلي من الداخل. لقد سعى الاحتلال إلى استثمار موجة إعدام العملاء خلال الانتفاضة، وتحويلها من فعل مقاوم إلى ساحة اشتباك اجتماعي داخلي، مدفوع بتأجيج مشاعر الثأر والانتقام.

ففي كثير من الحالات، لجأت السلطات الإسرائيلية إلى إبلاغ عائلات بعض العملاء الذين قُتلوا بأسماء الأشخاص الذين نفذوا فيهم حكم الإعدام، مما دفع بأهالي القتلى إلى التفكير بالثأر دون أن يكونوا على يقين تام من عمالة أبنائهم. إذ لم يكن جميع الأهالي يعترفون بتورط أبنائهم في التعاون مع الاحتلال، إما جهلًا بحقيقة ما جرى، أو إنكارًا عن وعي لما يمثله هذا الفعل من وصمة عار. وهكذا، بدأت تتسلل الشروخ بين فئات المجتمع المختلفة، خصوصًا في المدن والقرى والمخيمات، وحدثت مشادات وتحركات شعبية أخذت في بعض الأحيان طابعًا ثأريًا بعيدًا عن روح العدالة الثورية.

وما زاد الطين بلة أن الاحتلال لجأ إلى أسلوب خبيث في تأجيج حالة الشك والريبة، إذ استخدم بعض عملائه لقتل أبرياء من المواطنين، ثم سعى لتشويه سمعتهم باتهامهم زيفًا بالعمالة، عبر كتابة شعارات على الجدران أو توزيع منشورات تحمل أسماءهم. هذا التلاعب الهدّام أحدث فوضى واسعة في الوعي الشعبي، وزاد من صعوبة التمييز بين الخائن الحقيقي والضحية الملفقة عليه التهمة. ففي النهاية، لم يكن أمر القتل بالأمر الهين الذي يمكن تجاوزه، بل كان له أثر بالغ في النفوس، وترك جراحًا مفتوحة في الضمير الجمعي الفلسطيني.

وإزاء هذا الاستغلال الممنهج من قبل الاحتلال، تنبهت الفصائل الفلسطينية إلى حجم الضرر الذي بدأ يتسلل إلى صفوفها من خلال طريقة التعامل مع العملاء. فأعلنت ميثاقًا وطنيًا شاملاً حمل طابعًا أخلاقيًا وتاريخيًا، تمثل في عهد مقدس مفاده: "لا تُهدر الدماء الفلسطينية بأيدٍ فلسطينية". هذا الموقف لم يكن مجرد شعار، بل نتيجة مراجعة نقدية داخلية أدركت أن الاحتلال نجح - ولو جزئيًا - في استخدام ملف العملاء كورقة لتفتيت المقاومة وإضعاف ثقة الناس بها، خاصة حين خرجت بعض حالات الإعدام عن الضوابط المنظمة، أو جاءت بأوامر ميدانية فردية، دون الرجوع إلى القيادة الموحدة للانتفاضة.

لذلك، قررت الفصائل أن يكون تنفيذ أحكام الإعدام في حق العملاء مشروطًا بموافقة واضحة من الجهات العليا، في محاولة لاستعادة السيطرة والانضباط الثوري، وتفويت الفرصة على الاحتلال في استغلال هذه المواقف. وبالرغم من ذلك، شهد العام الأول من الانتفاضة تصعيدًا غير مسبوق في التعامل مع العملاء، إذ تشير بعض التقديرات إلى مقتل أكثر من 731 شخصًا بتهمة العمالة، بينما تقول تقارير أخرى – من بينها تقرير "بتسيلم" – إن العدد بلغ 735 قتيلاً في السنة الأولى وحدها، أما إجمالي من قُتلوا خلال سنوات الانتفاضة فقد بلغ وفق تقديرات إسرائيلية حوالي 1111 شخصًا، من بين ما يُقدّر بـ 2111 فلسطينيًا يشتبه بتعاونهم مع الاحتلال.

ورغم كل ذلك، حاولت إسرائيل أن تقدم نفسها للعالم باعتبارها دولة القانون، فكانت تحرص على محاكمة كل من يقتل أو يهدد عميلاً ممن تتبناهم، وتقدمه للمحاكم العسكرية، وتصدر بحقه أحكامًا قاسية قد تصل إلى السجن المؤبد لعدة مرات. ولم تتوقف عند هذا الحد، بل لجأت إلى التهديد أحيانًا بتنفيذ عقوبات الإعدام بحق من يعتدي على هؤلاء المتعاونين.

غير أن هذا "الاهتمام الظاهري" بالعملاء لم يكن نابعًا من حرص حقيقي عليهم، بقدر ما كان محاولة لإظهار صورة مضادة لواقع الإهمال التام الذي يُمارَس تجاههم بعد أن تُحرق أوراقهم. فقد كان من ينجح منهم في الهرب إلى داخل "إسرائيل" يعيش حالة من التهميش، إذ رغم توفير شقق سكنية لهم، إلا أن الكثير منهم عانوا من التمييز، وافتقروا إلى حقوق الرعاية الصحية والتعليم، واضطر بعضهم إلى ارتكاب الجرائم كوسيلة للبقاء.

هذا الواقع دفع بعدد من الأصوات داخل إسرائيل للمطالبة بتأمين حياة كريمة لهؤلاء العملاء "الذين وهبوا أنفسهم لخدمة الدولة"، وفق تعبيرهم. وبالفعل، تم دمج عدد منهم في المجتمع الإسرائيلي، ومنحت لهم بطاقات تعريف جديدة، ودُعِموا ببعض الموارد. غير أن الصحافة العبرية نفسها لم تتوانَ في فضح الأوضاع المزرية التي آل إليها هؤلاء "المتروكون"، إذ عبر كثير منهم عن ندمهم، وتمنوا لو ماتوا في قراهم بدل أن يعيشوا غرباء منبوذين في ما اعتقدوه وطنًا بديلًا.

وقد عبّر أحد رجال الاستخبارات الإسرائيلية السابقين عن خيبة أمله من الطريقة التي تتعامل بها المؤسسة الأمنية مع هؤلاء، فقال بمرارة: "إني لا أحتمل الحديث عن عميل لم يعد مفيدًا... هؤلاء خاطروا بحياتهم من أجلنا، وواجبنا أن نحميهم ونرعاهم مهما كلف الأمر من أموال وموارد".


كيف تعاملت قيادة الانتفاضة مع ظاهرة العملاء 


مع انطلاق الانتفاضة وإعلان العصيان المدني، دعت القيادة الوطنية الموحدة منذ بياناتها الأولى كافة العاملين في المؤسسات المرتبطة بالحكم العسكري إلى الاستقالة، بمن فيهم الشرطة وأعضاء المجالس البلدية والقروية المعيّنة من قبل الاحتلال. وفي بيانها السادس الصادر في 3 شباط/فبراير 1988، أكدت القيادة ضرورة الاستقالة تمهيدًا لإجراء انتخابات ديمقراطية مستقبلًا.

كما دعت القيادة ( عبر بيانات متلاحقة ) المتعاونين مع الاحتلال إلى التوبة والعودة إلى الصف الوطني، وتسليم أسلحتهم في المساجد والكنائس ليجري التخلص منها أو إعادتها إلى الحكم العسكري.

  •  تجسدت هذه الدعوة بوضوح في البيانين العاشر والحادي عشر الصادرين في 10 و19 آذار/مارس 1988، واللذين أكدا على تشديد الضغط الشعبي على الاحتلال والمستوطنين والعملاء، وحدد البيان الحادي عشر يوم 29 آذار يومًا للتوبة، داعيًا فيه "الخارجين عن إرادة شعبهم" إلى تسليم أسلحتهم والعودة إلى صفوف أبناء وطنهم.
  • لاحقًا، تطورت الدعوة إلى تحذير مباشر. ففي البيان رقم 16 بتاريخ 13 أيار/مايو 1988، هدّدت القيادة الموحدة من لم يلتزم بالاستقالة بأن "جماهير الانتفاضة وفرقها الضاربة قادرة على معاقبة كل الخارجين عن إرادة الشعب"، مشددة على ضرورة استهداف العملاء والشرطة واللجان البلدية التي لم تستقل.

ومع مرور الأشهر الأولى من الانتفاضة، جرى تنفيذ عمليات تصفية بحق عدد من المتعاونين المعروفين بعلاقتهم بأجهزة المخابرات الإسرائيلية. وكانت أول عملية لافتة هي إعدام محمد عايد زكارنة (42 عامًا) في بلدة قباطية يوم 24 شباط/فبراير 1988، بعد أن أطلق النار على متظاهرين يطالبونه بالاستقالة، فقتل طفلًا وأصاب آخرين. زكارنة، الذي عُرف بتعاونه مع الاحتلال منذ عام 1967، اتُّهم بتسليم أسماء شبان للمخابرات، ما أدى إلى اعتقالهم.

أعقبت حادثة قباطية عدة عمليات تصفية لعملاء في مختلف مناطق الضفة وغزة، ولكن بوتيرة محدودة. ومع ذلك، بدأت القيادة الموحدة تتناول الموضوع في بياناتها. 

  • ففي البيان رقم 25  الذي صدر بتاريخ ٦ أيلول / سبتمبر ١٩٨٨ إلى عملية القتل هذه، إذ جاء فيه أنَّ ق. و. م. "تشيد بالفرق الضاربة نواة الجيش الشعبي لملاحقتها العملاء في يطا والخليل وعلار ومخيم جنين وقباطية وبديا ومخيم الجلزون وجباليا ودير البلح، وتنفيذها حكم الانتفاضة والشعب ببعضهم. وتدعو الفرق الضاربة إلى مواصلة تنظيف الجبهة الداخلية من دنس أولئك الذين باعوا أنفسهم وشرفهم للاحتلال وخانوا شعبهم
  • وأثنى البيان 26 الصادر في 27 أيلول على "العمليات البطولية" ضد العملاء في غزة ونابلس وجنين. 

مع نهاية العام الأول للانتفاضة، وصل عدد العملاء الذين تمت تصفيتهم إلى ما لا يقل عن عشرين شخصًا. لكن العمليات تصاعدت بشكل ملحوظ في العام الثاني، وسط استمرار الدعوات لملاحقتهم.

  •  وفي بيان رقم 32 الصادر في 9 كانون الثاني/يناير 1989، شددت القيادة على ضرورة الاستقالة من الإدارة المدنية، ووجّهت تحذيرًا لمن يسعى لتشكيل مجالس محلية جديدة.
  •  أما البيان رقم 34 الصادر في 11 شباط/فبراير 1989، فدعا الفرق الضاربة إلى تصعيد هجماتها على العملاء والسماسرة والخونة.
  • وفي 29 آذار/مارس 1989، شدد البيان 37 على أهمية "تطهير صفوفنا من العملاء" عبر فضحهم ومقاطعتهم اجتماعيًا وضربهم حتى إعلان توبتهم. وأرفق البيان دعوة إلى مصادرة ممتلكات من لم يلتزم بالاستقالة، مؤكدًا أن "من أنذر فقد أعذر".

وبحلول نيسان/أبريل 1989، ( تلك الفترة عموما شهدت احداثا دموية كبرى من بينها مجزرة نحالين )  لوحظ نوع من التسيب، حيث قُتل نحو عشرة عملاء في الضفة وغزة ومعتقل أنصار 3 في النقب خلال أسبوعين. في هذا التوقيت، أطلقت إسرائيل حملة إعلامية لتصوير هذه العمليات كأعمال إرهاب فلسطيني موجهة ضد الفلسطينيين أنفسهم، واستثمرت الحدث في الدعاية الخارجية، كما ظهر في تصريحات وزير الدفاع آنذاك موشيه آرنس في إحدى زياراته لخارج إسرائيل، حيث وصف عمليات تصفية العملاء  بأنَّها عمليات تصفية لفلسطينيين "معتدلين" سياسيًا على يد "المتشددين" في منظمة التحرير الفلسطينية والقيادة الموحَّدة للانتفاضة، بسبب رغبة هؤلاء "المعتدلين" في الدخول في مفاوضات مع إسرائيل.


لاحقا شهدت بيانات القيادة الموحدة للانتفاضة تحولًا لافتًا في خطابها، إذ أدركت ما وصفته بـ"الفخ" الإسرائيلي الهادف إلى جر الانتفاضة إلى مستنقف العنف الداخلي. ولأول مرة، 

  • حدد البيان رقم 40 الصادر في 22 أيار/مايو 1989 دوافع تصفية المتعاونين مع الاحتلال، مشيرًا إلى أنهم ليسوا خصومًا سياسيين، بل أدوات قمع بيد الاحتلال، مسلّحة ومستخدمة ضد أبناء الشعب الفلسطيني.

وفي النصف الثاني من عام 1989 ومطلع 1990، تصاعدت وتيرة تصفية العملاء، حتى تجاوز عدد القتلى منهم منذ اندلاع الانتفاضة وحتى دخول عامها الثالث 150 شخصًا. لكن هذا التزايد، وفقًا لمراقبين من بينهم د. سري نسيبة، أستاذ الفلسفة في جامعة بيرزيت، لم يكن عفويًا. يرى نسيبة أن إسرائيل بدأت في منتصف 1989 تنفيذ خطة لإعادة تفعيل العملاء، بعدما أعلنت أعداد كبيرة منهم "التوبة" علنًا أو انسحبوا من الحياة العامة.

ويعزو نسيبة هذا التفعيل إلى قناعة إسرائيلية بعدم جدوى الاجتياحات العسكرية، إذ كانت كل قرية تنفض عن نفسها الاحتلال فور انسحاب الجيش وتعود لتُعلن "محررة"، ما عزّز صلابتها الداخلية. لذلك، قررت إسرائيل التسلل إلى داخل هذا "الحصن" الفلسطيني عبر العملاء كطابور خامس يثير الانقسامات العائلية والعشائرية والفصائلية.

واعتبر نسيبة هذه الخطوة أول هجوم إسرائيلي منظم ضد الانتفاضة، لكن رد الفعل الفلسطيني، المتمثل في التوسع بعمليات تصفية العملاء، وقع في فخ الاحتلال، إذ أصبح عدد العملاء المقتولين يفوق عدد الشهداء بنيران الاحتلال. ورغم إدراك القيادة الفلسطينية لهذا الفخ، أقرّت بوجود تجاوزات وأخطاء في التعامل مع قضية العملاء، مشيرة إلى تفاوت "درجات العمالة"، وإمكانية إعادة بعضهم إلى صفوف المجتمع.

هذا الإدراك دفع القيادة الموحدة لإصدار بيانات لاحقة تحث على الانضباط والتروي. 

  • فبينما دعا البيان رقم 41 بتاريخ 13 حزيران/يونيو 1989 إلى الاستمرار في ملاحقة العملاء، شدد على ضرورة توفر أدلة وإجماع وطني قبل اتخاذ العقوبة، مع مراعاة تفاوت مستوى الجرائم واستعداد المرتكب للتوبة. 
  • وتبعه البيان رقم 43 (25 تموز/يوليو 1989) مطالبًا بعدم اللجوء إلى الإعدام إلا في حالات الخيانة الصارخة وبعد تحقق تام ومصادقة الجهات العليا.

واستمرت النداءات المطالبة بضبط النفس، 

  • إذ شدد البيان رقم 44 (15 آب/أغسطس 1989) على عدم تنفيذ أحكام الإعدام إلا بقرار مركزي وبعد تحذير العميل ومنحه فرصة للتوبة. 
  • وأكد البيان 45 (5 أيلول/سبتمبر 1989) ضرورة انضباط اللجان الشعبية خشية أن يستغل الاحتلال هذه الظاهرة إعلاميًا وميدانيًا.

لكن هذا المسار أثار قلقًا آخر لدى نشطاء حقوق الإنسان، وعلى رأسهم المحامي الفلسطيني جوناثان كُتّاب، الذي شدد على أن حقوق الإنسان لا تتجزأ، ويجب احترامها في التعامل مع الأعداء والأصدقاء على حد سواء. عبّر كُتّاب عن قلقه إزاء ما نُقل عن محاكمات ميدانية تفتقر لأدنى معايير العدالة، مؤكدًا أن الاعترافات المنتزعة بالتعذيب تفرغ المحاكمات من قيمتها، وتقوّض الحق الأخلاقي في إدانة محاكم الاحتلال الظالمة.وحذّر من أن تكرار ممارسات الاحتلال، حتى ضد العملاء، قد يحوّل المقاومة إلى صورة مشوهة تشبه خصمها، مشيرًا إلى ضرورة تأسيس محاكم عادلة تمنح المتهمين فرصة للدفاع عن أنفسهم، واستشهد بتجارب بعض حركات التحرر في العالم التي التزمت بهذه القيم.

ورغم رفض دعاة المقاومة اللاعنفية لعقوبة الإعدام، إلا أن كُتّاب رأى أن ظروف الاحتلال تفرض تفهُّمًا نسبيًا، خاصة في ظل غياب سجون أو وسائل احتجاز لدى القيادة الوطنية. وقد اتُّخذت بالفعل إجراءات بديلة مثل النبذ المجتمعي، تدمير الممتلكات، والإقامة الجبرية، كما حدث مع عائلة من نابلس فُرضت عليها الإقامة ستة أشهر، قبل أن يُعاد دمجها في المجتمع بعد تقديم توبة.

ورأى كُتّاب أن من يُصِر على العمالة بعد كل تلك المحاولات، لا مناص من معاقبته بأشد العقوبات، لكن فقط بعد إثبات خيانته أمام محكمة عادلة تستند إلى القانون، بما لا يدع مجالًا للشك.


ميثاق الدم: لا يُهدر فلسطيني على يد فلسطيني


أمام تصاعد الفوضى وتحوّل بعض عمليات الإعدام إلى أدوات انتقام أو أخطاء مأساوية، بادرت فصائل الانتفاضة إلى إعلان "ميثاق وطني" تعهدت فيه بعدم إهدار الدم الفلسطيني بأيدي فلسطينية. وشددت الفصائل على أن أي حكم بالإعدام يجب أن يصدر فقط من قيادة الانتفاضة العليا، بعد التحقق الكامل من التهم، تجنبًا للتلاعب أو الوقوع في فخ الاحتلال.

جاء هذا الميثاق نتيجة إدراك عميق أن الاحتلال قد نجح جزئيًا في توظيف ظاهرة العملاء لتحقيق أهدافه، وأن الإفراط في تنفيذ الإعدامات دون تحقيق قضائي واضح قد يخدم العدو أكثر مما يردعه.



العملاء في حضن الاحتلال: حماية وهمية ومصير مُرّ


رغم محاولات الاحتلال التظاهر بحماية عملائه، فإن الواقع كشف عن خذلان واسع لهؤلاء الذين "خانوا أهلهم من أجله". فقد كانت سلطات الاحتلال تعلن مرارًا عن محاكمة الفلسطينيين الذين قتلوا أو هددوا عملاء، وكانت بعض الأحكام تصل إلى السجن المؤبد عدة مرات، أو التهديد بالإعدام.

لكن، خلف هذا المشهد الإعلامي، كانت الحقيقة مختلفة. فعندما كان يُكشف أحد العملاء ويهرب إلى "إسرائيل"، يجد نفسه معزولًا في شقة صغيرة، محرومًا من التعليم والرعاية الصحية. بعضهم اضطر لارتكاب الجرائم من أجل البقاء. في أكثر من تقرير عبري، ظهر هؤلاء العملاء كمنبوذين، بعضهم صرّح بندمه، قائلًا إن الموت في قريته كان أشرف من الحياة في الغربة.

ورغم الأصوات التي نادت داخل إسرائيل بضرورة تأمين هؤلاء وتوفير فرص عمل وسكن كريم لهم، فإن واقعهم بقي بائسًا. أحد ضباط المخابرات الإسرائيليين السابقين علّق قائلًا: "لا أطيق الحديث عن عميل لم يعد نافعًا... من واجبنا حماية من ضحوا من أجلنا مهما كلف ذلك".

بين رهبة الاختراق وضرورة الردع 


لطالما كانت قضية التعامل مع العملاء جرحًا غائرًا في جسد الانتفاضة، سطرت صفحاته بأحرف من لهيب ودم. لقد كشفت هذه المعضلة عن شرخين عميقين: هشاشة النسيج المجتمعي امام سهام الخيانة، وخطر الانفعال الذي يتحول إلى دوامة انتقام عمياء. بين رهبة الاختراق وضرورة الردع، وبين مطرقة الاحتلال وسندان التقدير الخاطئ، ذهبت الأثمان: دماء أحيانا سالت بغير حق، وكرامة أهدرت حتى لمن استحقوا العقاب، فلم يجدوا في النهاية سوى الذل مصيرا.


ربما جاء الميثاق الوطني لاحقا ليرسم خطا فاصلا بين مرحلتين: بين ثورة تسيرها سورة الدم وأخرى تبني أخلاقيات المقاومة. محاولة لاستعادة القيم من براثن الفعل الارتجالي، وإعلاء لواء العدالة فوق صرخة الانتقام، وتأكيد على أن وحدة الشعب حصن لا يقبل المساومة. ففي مواجهة آلة الاحتلال، لن تكون البندقية وحدها السلاح الفعال... بل سيظل الوعي اليقظ، والضمير الحي، هو الجدار الأصعب الذي لا يمكن اختراقه.


مصادر : 

اطروحة ( الانتفاضة في الصحافة الفلسطينية ) للباحث احمد محمد ابوعامر 

مؤسسة الدراسات الفلسطينية

google-playkhamsatmostaqltradent