سيرة عامود الكهرباء في أزمنة الثأر والردع
بعض المشاهد تبقى عالقة في الذاكرة لا تنسى وتستحضرها كلما طرأ عارض ذا علاقة وارتباط ، وفي ايامنا هذه لا شيء يطرأ في الذاكرة اكثر من الحنين لزمن الردع و العقوبة! ،نعم العقوبة وزجر الخائنين والمتساقطين في حضن الاحتلال ، لاكون اكثر دقة الحنين للزمن اذ صح واستقام ، حيث كانت لاتزال معادلة الثواب والعقاب فاعلة
![]() |
صورة رمزية من Andreas Ebner |
انا باختصار احكي عن زمن الانتفاضة الاولى حيث ثـمـة مـشـاهـد لا تـنـسـى: حـجـارة تطـير، جـدران تنـطـق، وشـبـاب مـلثـمـون يـعـلـقـون جـثـة عـلى عـامـود الـكـهـربـاء. لـم تـكـن تلـك الاعـمـدة مـجـرد هـيـاكـل خشبية، بـل تـحـولـت إلـى مـنـصـات قـضـاء شـعـبـي، ولـوحـات إعـلان عـن عـقـوبـة الـخـيـانـة، وشـواهـد قـاسـيـة عـلى صـراع مـريـر بـيـن الـمـجـتـمـع ومـن اخـتـرقـوا صـفـوفـه.
الـرؤيـة والـوضـوح:
شاهد من خشب يحمل روح ثورة
لم يكن العمود مجرد عمود. كان صامتا كالشجر الحجري، شاهقا كالعهد، حاملا للأسلاك التي تضيء بيوتنا وتظلم في الوقت نفسه. حين تذكر الانتفاضة الأولى، لا تهاجم الذاكرة الحجارة وحدها، بل تهاجمها أيضا تلك الأجساد المعلقة على أكتاف الخشب. كانت مشاهد قاسية، نعم، لكنها كانت لغة بلا مترجم، رسالة بلا بريد. كتبت بدماء الخونة على جدار الزمن: "هذا مصير من يبيع دم أخيه".
وتلك الاعـمـدة الـتـي حـمـلـت اسـلاكـا كـهـربـائـيـة، حـمـلـت يـومـا جـثـثـا. خـشـبـهـا الـذي اوصـل نـورا اصـطـنـاعـيـا، شـهـد اظـلـم لـحـظـات الـصـراع. تـبـقـى هـذه الـظـاهـرة نـصـبـا مـركـبـا فـي تـاريـخ الانـتـفـاضـة: جـزء مـن تـراجـيـديـا الـمـقـاومـة الـشـعـبـيـة، وصـفـحـة مـؤلـمـة فـي سـجـل الـعـدالـة الـمـسـتـعـجـلـة الـتـي ولـدتـهـا رحـم الـمـعـانـاة والـغـضـب. هـي لـيـسـت مـجـرد "اعـدامـات"، بـل فـعـل ثـقـافـي مـعـقـد، يـخـتـزل هـشـاشـة الـمـجـتـمـع تـحـت الـاحـتـلال، ورغـبـتـه الـيـائـسـة فـي الـسـيـطـرة عـلى مـا يـمـكـنـه الـسـيـطـرة عـلـيـه، حـتـى لـو كـان خـشـب عـمـود كـهـربـاء.
لـمـاذا العامود بـالـذات؟
الـرؤيـة والـوضـوح:
الـعـمـود شـاهـق فـي فـضـاء الـمـديـنـة أو الـمـخـيـم، يصـعـب اخـفـاؤه. تـعـلـيـق الـجـثـة عـلـيـه يـضـمـن أن تـرى مـن أوسـع دائـرة مـمـكـنـة – رسـالـة عـلـنـيـة لا تـخـطـئـهـا عـيـن.
الـرمـزيـة الـجـمـاعـيـة:
الـرمـزيـة الـجـمـاعـيـة:
كـان الـعـمـود، شـريـان الـحـيـاة لـلـكـهـربـاء، يـجـسـد الـمـصـلـحـة الـعـامـة. تـعـلـيـق "الـعـمـيـل" عـلـيـه إشـارة إلـى انـه خـان هـذا الصالح الـعـام والامـان الـجـمـاعـي.
الـسـرعـة والامـكـانـيـة:
الـسـرعـة والامـكـانـيـة:
فـي ظـل مـطـاردات الـاحـتـلال، كـانـت الاعـمـدة (وخـاصـة الـخـشـبـيـة الـقـديـمـة فـي الـمـخـيـمـات) اهـدافـا سـهـلـة وسـريـعـة لـلـتـنـفـيـذ، لا تـحـتـاج لـمـعـدات مـعـقـدة.
الاثـر الـثـقـافـي والاجتماعي:
الاثـر الـثـقـافـي والاجتماعي:
فـكـرة تـعـلـيـق جـثـث الـخـونـة أو الـمـجـرمـيـن فـي امـاكـن عـامـة لـتـكـون عـبـرة لـهـا جـذور تـاريـخـيـة فـي ثـقـافـات عـدة، بـمـا فـيـهـا الـمـنـطـقـة الـعـربـيـة. الاعـمـدة اعـادت انـتـاج هـذا الـنـمـط فـي سـيـاق الـثـورة.
مـسـارات "الـمـحـاكـمـة": مـن الـتـهـمـيـة إلـى الـتـنـفـيـذ
لـم يـكـن الامـر اعـتـبـاطـيـا فـي غـالـب الاحـيـان. تـشـيـر دراسـات عـن الـمـجـتـمـع الـفـلـسـطـيـنـي اثـنـاء الانـتـفـاضـة (مـثـل كـتـاب "الانـتـفـاضـة والـمـجـتـمـع الـفـلـسـطـيـنـي" لـشـريـف كـنـاعـنـة) إلـى مـسـارات شـبـه قـضـائـيـة:
الـتـهـمـيـة والـتـحـقـيـق:
تـجـمـع ادلـة عـلى الـشـخـص مـن خـلال الـمـراقـبـة، أو اعـتـرفـات، أو تـقـاريـر مـن "الـلـجـان الـشـعـبـيـة" الـتـي تـشـكـلـت لـادارة شـؤون الـمـخـيـمـات والـمـدن. قـد يـسـتـجـوب الـمـشـتـبـه بـه سـرا.
الـحـكـم:
الـحـكـم:
غـالـبـا مـا تـصـدر "الاحـكـام" مـن قـبـل خـلايـا سـريـة تـابـعـة لـلـفـصـائـل، أو لـجـان شـعـبـيـة ذات نـفـوذ امـنـي. الـعـقـوبـة الاقـسـى كـانـت الاعدام شـنـقـا أو رمـيـا بـالـرصـاص، ثـم الـتـعـلـيـق.
الـرسـالـة:
الـرسـالـة:
يـعـلـق الـجـسـد غـالـبـا مـع لـافـتـة تـثـبـت عـلى صـدره أو بـجـانـبـه، تـسـمـيـه "عـمـيـلا" أو "خـائـنـا"، وتـفـصـل تـهـمـتـه احـيـانـا (مـثـل الـتـبـلـيـغ عـن نـشـطـاء، أو تـسـلـيـم سـلاح، أو تـوجـيـه ضـربـات لـلـجـيـش). الـهـدف: الـردع، وتـطـهـيـر الـمـجـتـمـع، واسـتـعـادة هـيـبـة الـثـورة.
رد الفعل وصرخة في وجه العالم
كانت سلطات الاحتلال تحاول ازالـة الـجـثـث بـسـرعـة لـتـقـلـيـل الاثـر الـنـفـسـي، وشـنـت حـمـلات اعـتـقـال ضـد مـن تـشـتـبـه فـي تـورطـهـم، وروجـت لـلـظـاهـرة كـدلـيـل عـلى "هـمـجـيـة" الـمـقـاومـة.
في حين رأى كـثـيـرون فـي هـذه الاعدامـات ضـرورة دفـاعـيـة قـاسـيـة لـحـمـايـة الـنـسـيـج الـمـجـتـمـعـي الـهـش تـحـت الـاحـتـلال، الا انـهـا خـلـقـت ايـضـا حـالـة مـن الـروع والـريـبـة. خـشـي الـبـعـض مـن تـسـويـات الـحـسـابـات الـشـخـصـيـة تـحـت غـطـاء "مـكـافـحـة الـعـمـلاء". بـعـض الـقـيـادات الـسـيـاسـيـة والـفـصـائـلـيـة حـاولـت لـاحـقـا تـنـظـيـم أو تـقـنـيـن هـذه الـمـمـارسـات خـوفـا مـن الـفـوضـى. باي حال مهما كانت الخلافات الا ان الجميع اتفق على ان الخيانة في زمن الثورة تعني حكما بالموت .
رمزية العامود
تشكلت في وعي الجماهير رمزية فهمها مع الزمن حول ظاهرة " العواميد في الانتفاضة " وابرز ما يمكن الحديث عنه في هذا الاطار :شـاهـد عـلى الـقـسـوة:
تـذكـيـر بـالـمـخـاطـر الـوجـوديـة الـتـي واجـهـهـا الـمـجـتـمـع، حـيـث كـان الـخـوف مـن الاخـتـراق الامـنـي يـضـاهـي الـخـوف مـن جـنـود الـاحـتـلال.
سـجـل عـلـنـي لـلـخـيـانـة:
سـجـل عـلـنـي لـلـخـيـانـة:
كـانـت الـعـوامـيـد سـجـلات مـروعـة لـكـنـهـا واضـحـة عـن ثـمـن الـخـيـانـة فـي زمـن الـثـورة، وفـق الاعـراف الـتـي فـرضـهـا الـمـجـتـمـع لـنـفـسـه.
وسـيـلـة لـتـجـسـيـد الـسـلـطـة الـشـعـبـيـة:
وسـيـلـة لـتـجـسـيـد الـسـلـطـة الـشـعـبـيـة:
فـي غـيـاب مـؤسـسـات قـضـائـيـة مـسـتـقـلـة، مـثـلـت هـذه الافـعـال مـحـاولـة (وإن كـانـت دمـويـة) لـفـرض نـظـام بـديـل ضـد الـخـونـة.
مـصـدر لـلـتـامـل الـنـقـدي:
مـصـدر لـلـتـامـل الـنـقـدي:
يـنـظـر كـثـيـر مـن الـمـؤرخـيـن والـنـاشـطـيـن الـيـوم لـهـذه الـمـمـارسـة بـمـراجـعـة نـقـديـة، مـعـتـرفـيـن بـظـروفـهـا الـقـاسـيـة، لـكـنـهـم يـتـسـاءلـون عـن ضـوابـطـهـا وامـكـانـيـة اسـتـغـلالـهـا.
حين تكون المشانق عادلة
تمر السنوات ونحن نحمل ذاكرة العمود كجرح لا يندمل. لا لأننا نحب المشهد، بل لأننا نفتقد زمنا كان فيه الخائن يخاف. نفتقد زمنا كان الدم غاليا. نفتقد زمنا كان الشعب قاضيا وجلادا في آن.
اما اليوم، والخونة يجلسون على كراسي الوزارات، ويوقعون على اتفاقيات الاستسلام، ويلقبون أنفسهم بـ"صناع السلام". في العمق، نحن لا نتمنى عودة الجثث المعلقة، بل نتمنى عودة الهيبة. نتمنى أن يعود للشعب سيفه الرادع، سواء أكان من خشب أم من إرادة.
العمود الذي سقط جسدا، ما زال قائما في الوجدان كفكرة مقدسة:
أن دم المقاوم ليس رقما في سجلات الأمم المتحدة.
أن الأرض لا تبيع.
أن الخيانة جريمة لا تسقط بالتقادم.
وأن شعبا مر من هنا، صنع عدالته من حجر وخشب وغضب...
ولن يرضى ببديل.
مواضيع ذات صلة :