recent
أخبار ساخنة

كتابة الشعارات على الجدران في الانتفاضة نظرة تاريخية و قراءة في المتغيرات

 الطلاء السياسي

الكتابة على الجدران في الانتفاضة الاولى
جدار مقبرة احدى قرى ريف بيت لحم 

في الحقيقة عندما التقطت هذه الصورة قبل سنوات لم افكر ولم اقصد الرمزية الظاهرة من حيث التناقض العجيب بين عبارة " لا للعنف " المكتوبة على الحائط وبين خلفية الصورة التي تظهر فيها المغتصَبة الصهيونية " بيتار " و هذا مبحث اخر ربما نحكيه ذات يوم 

لكن ما لفتني يومها هو العبارة على الحائط " لا للعنف " فصورتها وعلقت عليها عبر منصة فيسبوك وقتها وكتبت : 

"هذه المقبرة وهذا السور تحديدا لطالما شهدا صولات وجولات بين الشبان والقوات الاسرائيلية خاصة في الانتفاضة الاولى , كان يشكل ساتراً من رصاص الاسرائيلي , قريبا جدا من هنا سقط الشهيد " فؤاد عوض " وحوله وفي محيطه سقط رياض وصبحي ومحمد وغيرهم ... المؤلم اكثر أن هذا المقطع من السور مجاور وملاصق تماما لصرح الشهداء الظاهر في الصورة .. !

عموما، " الغانداوية"  حالة لا تتكرر وصراعنا  له بعده الوجودي , العنف هو متنه الذي ان استقام وارتفع استقامت الدنيا من حولنا وان انحنى كسرت ظهورنا ..  فلا تفرضوا علينا الشراكة في بيعكم الذي بايعتم  ,ولا تلوثوا أحلامنا وما نعتقد ,  وخلوا بين أبنائنا وبينهم , يستدركون الثأر و يُرجِعون " 


اعادة رسم الجدران وفق الاجندات الحاكمة 

في السنوات التي تلت نهاية الانتفاضة الثانية، شهدت العديد من المدن والمخيمات الفلسطينية تحوّلًا تدريجيًا في ملامح الجدران، حيث بدأت جداريات المقاومة التي كانت تُمجّد الشهداء وتدعو إلى الكفاح المسلح تختفي شيئًا فشيئًا، لتحلّ محلّها جداريات جديدة تحمل شعارات "نبذ العنف" و"لا للعنف"، غالبًا بإشراف مباشر من مؤسسات تابعة للسلطة أو بدعم من منظمات مجتمع مدني ممولة أجنبيًا. هذا التحوّل لم يكن بريئًا ولا عفويًا، بل جاء في سياق سياسي وأمني واضح، هدفه إعادة تشكيل وعي الأجيال الجديدة، خاصة في المخيمات التي لطالما اعتُبرت بؤرًا ساخنة للمقاومة. 

وقد رُصدت حملات ممنهجة لإزالة الجداريات القديمة، بعضها باستخدام الطلاء الأبيض فقط، وكأن الغاية هي الإخفاء لا الاستبدال، فيما ترافقت أخرى مع رسومات جديدة تظهر الأطفال يطيرون الطائرات الورقية، أو شعار حمامة السلام تحلق فوق مدينة قديمة، مرفقة بعبارات مثل "السلام خيارنا" و"العنف لا يبني وطنًا".

 كثيرون رأوا في هذه الحملات محاولة لطمس الهوية النضالية للمكان، خاصة في ظل غياب أي مشاركة شعبية حقيقية في اختيار محتوى هذه الجداريات، بل ورفضٍ ضمني من سكان المخيمات الذين ما زالوا يحنّون إلى صور الشهداء وأسماء الفصائل المكتوبة بخط اليد على الجدران والى كل ماهو مرتبط بارث الانتفاضة الثوري وثقافته سواء اكانت جدران او حتى عواميد كهرباء تحمل رمزيات يعرفها ابناء البلد. باي حال هذه الجداريات الجديدة، برغم ألوانها الزاهية، بدت في نظر كثيرين بلا روح، وكأنها مفروضة من أعلى، لا نابعة من نبض الشارع.

القصة من البداية : ادب الجدران كفعل نضالي متجذر 

ادب الجدران
صورة من steve johnson


لم تكن الجدران هنا مجرد إسمنتٍ عادي. كانت شهودًا صامتة على ما تخفيه الكاميرات، ومنابر تبوح بما يعجز الناس عن قوله جهرًا. في زمن الانتفاضة الأولى، تحولت الجدران إلى ساحات معركة، وعلب الطلاء إلى بنادق، والكلمات إلى رصاصات تخترق أقوى حصون الاحتلال: الوعي.

تخيلوا هذا المشهد: قبل ثلاثة عقود، لم تكن كتابة شعار على حائط مجرد خربشة عابرة. كانت مغامرة حقيقية، أشبه بعملية فدائية مصغرة. كل حرف تنقشه يدك يعرّضك للاعتقال أو الضرب المبرح أو غرامة ثقيلة، بل وقد يودي بحياتك. كانت "علبة السبريه" سلاحًا فتاكًا بيد شاب ملثم، يوقّع باسم شعبه بأحرف من نور وظلام.

الجذور العميقة :

لو عدنا بالذاكرة، سنجد أن هذه الحرب بالكلمات لها تاريخ طويل. الباحثان إبراهيم محمد وطارق محمد يؤكدان في دراستهما "شعارات الانتفاضة.. دراسة وتوثيق" أن جذورها تعود لأيام الثورة الفلسطينية الأولى. أحد أقدم الشواهد المروعة ما كتبه الشهيد عوض النابلسي بالفحم على جدران زنزانته في سجن عكا عام 1936، قبل لحظات فقط من إعدامه على يد جنود الانتداب البريطاني. كلماته الأخيرة كانت دمًا يسيل على الحجر.

لكن الأمر اختلف في الانتفاضة الأولى. تحولت الكتابة من فعل فردي شجاع إلى طقس جماعي مقدس. صار الجدار ساحة عامة يحارب فيها الفلسطيني بحروفه كما يحارب غيره بحجارته وزجاجاته المحترقة. لم تعد الشعارات مجرد نداءات موسمية، بل صارت جزءًا من نسيج الحياة اليومي: جريئة، منتشرة، ومستفزة بقوة الحقيقة.


كيف واجه الاحتلال ظاهرة الكتابات الجدارية

 الشعارات عموما كانت ردة فعل عن الحصار الاعلامي المفروض من قبل الصهاينة على وسائل الاعلام والتعبير الفلسطينية، وقد اتخذت السلطات تلك وسائل عديدة، وهي في سبيلها لقمع الانتفاضة، ذلك الحدث الذي أرّق الشارع العام في اسرائيل حكومة وأفرادا وجيشا، طورت كل الأسليب لمحاربة هذه الظاهرة وقمع الصوت الفلسطيني وقد أدرك المحتل مبكرًا خطر هذه "المعركة الرمزية". فبدأ باصدار القوانين تباعا لتجريم الكتابة على الجدران وملاحقة فاعليها ، وكان اولها ما اصدره  " جابي اوفير " قائد منطقة يهودا والسامرة في حزيران 1988 حين قرر : 

" وفقا للصلاحية المخولة لي حسب المادة (191) بشأن تعليمات للأمن (يهودا والسامرة) (رقم 378) 5730-1970، وباقي صلاحياتي حسب أي تشريع وتشريع الأمن، وبما أنني أعتقد أن الأمر مطلوب للحفاظ على الأمن في المنطقة، على النظام العام ولإقرار الحكم المنتظم، إنني آمر بما يلي:

  • واجب محو اشارات وإزالة أعمال: يجب على كل من متصرف بعقار محو أو تغطية بشكل آخر أي اشارة معروضة في العقار الذي بتصرفه، وإزالة أي علم أو رمز من العقار الذي بإمكانه المس من أمن المنطقة، بسلامة المنطقة أو النظام العام.
  • تعريف متصرف: المتصرف فعلياً بعقار بما في ذلك كل من يوجد له السلطة على المكان
  • كل من يخل بهذه التعليمات يخالف بذلك تشريع الأمن ويسجن لمدة 5 سنوات أو غرامة بمقدار 1500 شيقل، أو الاثنين معا.
  • يبدأ سريان هذه التعليمات اعتبارا من يوم التوقيع عليها
  • الاسم: يطلق على هذا التعليمات اسم: "تعليمات بشأن محو اشارات وإزالة أعلام (يهودا والسامرة)5748-1988 / 4تموز 5748
  •  تجاهل هذه التعليمات يعد مخالفة صريحة للأوامر العسكرية، ويعرض المخالفين لعقوبة السجن ودفع غرامة مالية تصل إلى 15,000 شيقل إسرائيلي.

حرب الشعارات 

جاء هذا البيان في خضم تصاعد الانتفاضة الشعبية، لتبدأ بعده ما أطلقت عليه الصحف اسم "حرب الشعارات" أو "حرب الفرش والطلاء"، وهي معركة غير تقليدية لكنها كانت من أشرس أشكال الصراع الرمزي بين الاحتلال وأبناء الشعب الفلسطيني. فقد أصر الفلسطينيون على استخدام الجدران كمساحة تعبير حرة، تفيض بالشعارات الوطنية والتحريضية، في وقت مارس فيه جيش الاحتلال قمعًا ممنهجًا ووحشية مفرطة في محاولة منه للقضاء على هذه الظاهرة التي اعتبرها تهديدًا مباشراً لهيبته وسيطرته.


وقد تنوعت الإجراءات الإسرائيلية التي استهدفت الكتابة على الجدران، وشملت أدوات قمعية وقوانين عسكرية صيغت خصيصًا لخنق هذا النوع من التعبير الشعبي:


  • اقتحام البيوت وإجبار السكان على الإزالة: منحت القوانين العسكرية الإسرائيلية الحق لأي دورية عسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة بإيقاظ النائمين في منازلهم في أي وقت، وإصدار أوامر مباشرة لهم بإزالة الشعارات المرسومة على جدران بيوتهم. وأصبح من المعتاد في حياة الفلسطينيين أن يوقظهم طرق عنيف على الأبواب، يتبعه أمر بإزالة ما كتب، وفي أحيان كثيرة استخدام الضرب أو الإهانات إذا أبدى السكان رفضًا أو ترددًا.


  • تشير دراسة ميدانية تناولت أثر الانتفاضة على الأسرة الفلسطينية، إلى أن ظاهرة كتابة الشعارات وما تبعها من مداهمات وإجبار السكان على المسح، جاءت في المرتبة الثالثة ضمن قائمة الممارسات القمعية الإسرائيلية، بنسبة بلغت 13.2% من العينة التي شملتها الدراسة، بعد ممارسات التفتيش والاعتقال والضرب الليلي.


  • الغرامات المالية: فُرضت غرامات باهظة على من يثبت تورطه في كتابة الشعارات، أو من يرفض تنفيذ أوامر الجيش بإزالتها. وتراوحت قيمة الغرامات ما بين 300 إلى 1500 شيقل، تُفرض بشكل فوري وغالبًا دون أي إجراءات قضائية، مما حول العقوبة إلى أداة إذلال وإفقار إضافية.


  • أحكام بالسجن: نصّ القرار العسكري رقم 378 لعام 1970، والمعدّل بتاريخ 19-6-1988 بتوقيع قائد منطقة الضفة الغربية "غابي عوفير"، على معاقبة كل من يكتب شعارات أو يرفض إزالتها بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات أو بدفع غرامة مالية قدرها 1500 شيقل، أو كليهما. وكان هذا القرار أداة رئيسية في الزج بالمئات من الشبان في السجون، فقط لأنهم مارسوا فعلًا رمزيًا بسيطًا لكنه يحمل مضامين تحريضية في نظر الاحتلال.


  • إطلاق الرصاص الحي: في مشاهد مروعة تؤكد على مدى عنف الاحتلال، أطلق الجنود النار على شبان كانوا يكتبون على الجدران، ما أدى إلى استشهاد عدد منهم، من بينهم عبد اللطيف السقا، وأحمد عايش النجار من خان يونس، ومحمد القواسمي من الخليل، وجميل عيد الجواريش من بيت جالا. قُتل هؤلاء وهم يحملون "علبة بخاخ" أو "فرشاة"، لا سلاح، ولكن الاحتلال كان يعتبر فعلهم هذا خطرًا يوازي التهديد المسلح.


  • تشويه الجدران بمركبات كيميائية: لم يكتفِ الاحتلال بمحو الشعارات، بل ابتكر أساليب لتشويه الجدران نفسها، حيث استخدم مادة سوداء لزجة، خليط من القطران والنفط الكريه الرائحة، في عمليات مسح كانت تهدف ليس فقط إلى إزالة الشعار بل إلى تدمير المساحة البصرية للجدار. في مدينة غزة، خصوصًا في شارع عمر المختار، تم رصد هذه الممارسات بشكل متكرر، وتحولت الجدران إلى بقع مشوهة وكريهة.

الحروف على الاسمنت 

ومع تصاعد هذا القمع، أبدع الفلسطينيون في ابتكار وسائل جديدة تُمكّنهم من التحايل على قرارات الاحتلال. أحد هذه الأساليب كان استخدام مادة "الشيد" في طلاء الجدران، وهي مادة بيضاء تُستخدم تقليديًا في تبييض الحوائط. بعد مغادرة الجيش، يُرش الماء على الجدار، فيعود الشعار إلى الظهور تدريجيًا، وكأنه لم يُمس، في عملية مقاومة ذكية تدمج بين الإصرار والحيلة.

هكذا تحولت الكتابة على الجدران من مجرد وسيلة احتجاجية، إلى ساحة مواجهة كاملة، تجسدت فيها إرادة الفلسطينيين في الحفاظ على هويتهم وسرديتهم الوطنية، ورفضهم للإذعان حتى في أبسط أشكال التعبير: الحروف على الإسمنت.


جريدة الشعب على الحائط:

لم تكن هذه الجدران تنقل شعارات سياسية فقط. كانت مرآة تعكس أحلام الشعب وآلامه وهوياته المهدورة. صارت الصحيفة البديلة عندما خُنقت الصحف، والساحة الحرة عندما أغلقت الساحات. كتبوا عليها ما لم يستطيعوا صراخه في الميكروفونات: دعوات للإضراب، نعي الشهداء، أدعية محمومة، ورسوم كاريكاتير تسخر من جبروت المحتل.

وكانت الاستجابة أشبه بمعجزة. تحولت كل زاوية ميتة إلى صحيفة يومية ملونة، وكل حي إلى جبهة جديدة في معركة الوعي. صار الشاب الملثم فنانًا شعبياً، وشعاراته وثائق تاريخية تنطق باسم شعب بكامله. الجدار نفسه صار شاهدًا وصديقًا ومقاتلاً.

هكذا تحولت جدران فلسطين إلى سجل حي لنضال شعب رفض أن يُسكت. حروف من دم وطلاء


مواضيع ذات صلة : 

المونتيلاتو من رفوف الانتفاضة الى رفوف الصيدليات 

خياطة الاعلام في الانتفاضة الاولى 

راديو ابوبطاريات 

هلل انتهى زمن لانتفاضات 

دم دم 

google-playkhamsatmostaqltradent