حياكة الأعلام كفعل نضالي في الانتفاضة الفلسطينية الأولى
في الانتفاضة الأولى، كنت في عمرٍ صغير، لا يخولني التورط في مجريات الأمور الكبرى، لكنه كان كافيًا لأن تلتقط ذاكرتي مشاهد كثيرة، ما زالت حتى اليوم تبرق في خاطري كلما استدعيت تلك الأيام من الذاكرة.
من ذلك ، أذكر مشهد عمتي وبعض نسوة قريتنا، تحت ضوء شمس خافت هارب من كوة في مخزن صغير، تتهامس أيديهن بالإبرة والخيط فوق أقمشة قطنية بالية، يصنعن منها أعلامًا وكوفيات. كنت أفهم، وإن بنصف وعي، أن ما يقمن به عمل محظور، فقد كانت السرية تحيط بكل تفصيل: الهمس، الارتجاف الخفي، المسارعة إلى إخفاء كل ما يُنتج في "كيس خيش" أعيدت صناعته من بقايا أكياس السكر أو الأرز.
ذاك الكيس كان يُدفن أحيانًا في باطن الأرض، أو يُدسّ بين أحجار السناسل القديمة، أو تحت شجيرة زاحفة ضخمة، أو في "نتشة" عظيمة بين جذور الزيتون ، او حتى في " بيت الدرج" لبيت قيد الانشاء . لم أكن أعي يومها المعنى الكامل لهذا الحذر ولهذه الحياكة المتوترة، لكنني كبرت، وكبر المعنى في داخلي: لقد كانت خياطة الأعلام الوطنية في الانتفاضة الأولى فعل مقاومة خالص، خيطًا بخيط، ولواءً بلواء، يرفع الراية فوق الاحتلال.الانتفاضة الاولى (1993-1987)
حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر العام 1987، كانت زلزالًا شعبيًا خرج من أعماق القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية.
انطلقت شرارتها من قلب المخيمات المنسية، ثم امتدت كالريح إلى كل شارع وزقاق، لتشكل عصيانًا مدنيًا شاملًا ضد نظام الاحتلال بأسره.كانت انتفاضة الحجارة -كما سُمّيت لاحقًا - أكثر من مجرد مواجهة ميدانية مع الجنود والدبابات، كانت انتفاضة حياة كاملة: في المدارس، في الأسواق، في البيوت، وحتى في ثنايا الأقمشة وخيطان التطريز.فُرضت خلالها قوانين حظر التجوال، وكثرت المداهمات الليلية، وانتشرت سياسة القمع الجماعي، فيما كان رفع العلم الفلسطيني يُعد جريمة يُحاسب عليها القانون العسكري الإسرائيلي بأشد العقوبات، إلى حد أن بعض الجنود كانوا يُجبرون المعتقلين الفلسطينيين على انزال ودوس العلم أو إحراقه قسرًا.
في هذه الظروف المشتعلة، أصبحت الأدوات اليومية البسيطة — كحجر منتزع من جدار، أو قماش محاكٍ بلون الوطن — أدوات مقاومةٍ حقيقية.
وهكذا، وُلدت الحاجة الملحة إلى إعادة إنتاج الرمز الوطني سرًا: خياطة الأعلام، تطريز الكوفيات، كتابة الشعارات على الجدران.
لم يكن مجرد فن، بل كان مواجهة حقيقية مع الخوف والموت، وكانت المرأة الفلسطينية، كعادتها، تقف هناك حيث يعجز الجميع، تخيط للعَلَم دربَه إلى الحرية.
منع رفع الأعلام: حين صار القماش تهديدًا
في ذلك الوقت لم يكن العلم الفلسطيني مجرد قطعة قماش بل كان في نظر الاحتلال تهديدًا سياسيًا ورمزًا للتحريض.
لذلك، سعت سلطات الاحتلال إلى منع رفعه بكل الطرق، وفرضت قوانين عسكرية صارمة تحظر عرضها أو رفعها في الأماكن العامة والخاصة.
وكانت العقوبة شديدة: السجن، الغرامة، والاعتداء الجسدي، لكل من يُضبط وهو يرفع أو يحتفظ بعلم فلسطيني، حتى لو كان صغيرًا.
أمام هذا الواقع، تحولت خياطة الأعلام الفلسطينية في الانتفاضة الأولى إلى عمل سري أشبه بنسج الخطر نفسه.
كانت النسوة الفلسطينيات يدركن أن كل غرزة يخطنها قد تكلفهن حريتهن أو تعريض عائلاتهن للخطر، لكنهن كن يواصلن العمل بدافع من الإيمان العميق بأن الهوية يجب أن تُصان، مهما كان الثمن.
بل إن بعض الروايات الشعبية تتحدث عن أطفال في المدارس كانوا يخططون لرفع علم صغير فوق سارية، فتُطلق على إثر ذلك حملات دهم واعتقال تطال الحي بأكمله، بحثًا عن "من خاط العلم" و"من رفعه"
بشكل شخصي أتذكر مشهد الاعلام المربوطة بالاحجار او معادن او كتل ثقيلة نسبيا وملقاة على اسلاك الكهرباء ليرفرف العلم هنالك في مكان حيث لايستطيع الوصول اليه احد !
لهذا، أصبح العلم الفلسطيني المحاك يدويًا رمزًا مزدوجًا:
رمزًا للحرية من جهة، ورمزًا للتحدي البطولي أمام محاولات الإلغاء والقمع من جهة أخرى.
تقنيات الإخفاء ! حين تتحول الأرض إلى مخبأ
في زمن القمع والمداهمات الليلية، كانت كل قطعة قماش تحمل ألوان فلسطين تُعامل وكأنها سلاح.
لم تكن حياكة الأعلام الفلسطينية في الانتفاضة الأولى مجرد حرفة سرية، بل كان لا بد أن ترافقها براعة أخرى: براعة الإخفاء والتمويه.
كانت النسوة الفلسطينيات، اللواتي أدركن خطورة ما يقمن به، يبتكرن طرقًا ذكية لإخفاء الأعلام والكوفيات المطرزة.
في بعض الأحيان، كان يتم لف الأعلام داخل أكياس مصنوعة من "الخيش"، وهي أكياس أعيد تدويرها من تلك التي كانت مخصصة للأرز أو السكر، ثم تُدفن هذه الأكياس في باطن الأرض، تحت شجرة زيتون معمرة، أو بين حجارة السناسل القديمة التي تحيط بالقرى.
وفي أحيان أخرى، كانت تُخبأ الأعلام داخل حجور الثياب، أو تُلف بإحكام وتُخبأ داخل أوعية غسيل قديمة، أو تحت "نتشات" الزحيف العملاقة التي تتشابك أغصانها بالأرض كأنها تحرس الأسرار.
كل تفاصيل عملية الإخفاء كانت مدروسة بعناية: متى تُخرج الأعلام؟ أين تُخزن؟ ومن يثق بمن؟
كان الهمس سيد اللحظة، وكانت النظرات تقول ما تعجز الألسنة عن التفوه به.
بهذه التكتيكات البسيطة والعبقرية، استطاعت المرأة الفلسطينية أن تحافظ على وجود العلم حيًّا، حاضرًا في المسيرات والمواجهات، مرفوعًا على أسطح البيوت، متحديًا كل محاولات الطمس والإلغاء.
وهكذا، كانت خياطة الأعلام وحمايتها فعلين متلازمين: فعل ولادة وفعل صمود، لا يقلان أهمية عن إلقاء الحجر أو تنظيم المظاهرات.
![]() |
تطريز فلسطيني يحاكي الوان العلم |
تطريز وخياطة الاعلام بين الحاجة والرمزية
في زمن صار فيه رفع العلم جريمة، تحوّل القماش إلى سلاح، والإبرة إلى طلقة تطلقها الأيدي المرتجفة بثقة المؤمنين بحقهم.
لم يكن نسج الأعلام ترفًا ولا تزيينًا، بل كان استحضارًا واعيًا للهوية التي أراد الاحتلال اقتلاعها من جذورها.
كل غرزة، كل خيط ملون بالأحمر والأسود والأخضر والأبيض، كانت بمثابة إعلان ولاء لفلسطين، وعهدٍ أن الأرض باقية ما بقيت الذاكرة تتوهج.
رفع العلم الفلسطيني فوق سطح مدرسة أو تعليقه على شجرة زيتون كان يكفي ليوقد نار التحدي في قلوب الصغار والكبار.
لهذا السبب، لجأت النساء الفلسطينيات إلى حياكة الأعلام يدويًا، مستخدمات بقايا الأقمشة القديمة، يعيدن قصّها وصبغها وخياطتها في الخفاء، بعيدًا عن أعين الجواسيس والدوريات العسكرية.
لم يكن الأمر مجرد إنتاج لراية تُرفع في مظاهرة أو جنازة شهيد؛ بل كان بناءً مستمرًا لروح الانتفاضة نفسها.
في كل بيت كان يُخاط فيه علم، كانت تُنسج إرادة مقاومة جديدة، وتُكتب قصيدة صامتة من دم القلوب وصبر السنين.
المرأة الفلسطينية: الخيط الذي لا ينقطع
في الانتفاضة الأولى، لم تكن المرأة الفلسطينية مجرد شاهدة على الأحداث، بل كانت في صلب الفعل الثوري، تخيط، وتخبئ، وتحمي ذاكرة الوطن من النسيان ، شاركت في المواجهات المباشرة مع جنود الاحتلال، وبنت مع رفيقاتها ملامح الانتفاضة حجراً فوق حجر، جمعت الحجارة من أطراف السناسل — الجدران الحجرية الاستنادية التي تحيط بالحقول — ورتبنها في أكوام محددة سلفًا، استعدادًا لكل مواجهة. وفي أوعية جلدية، أو في حجور أثوابهن المطرزة، خبأن البصل لمقاومة قنابل الغاز المسيل للدموع. كما صنعت أيديهن الحواجز الحجرية، أو ما عُرف شعبيًا بالسدود، ليعترضن بها طريق آليات الاحتلال المدرعة، بطبقات حجارة اقتلعتها الإرادة الحرة من بين جذور الأرض
وفي البيوت الريفية وعلى أطراف المخيمات، تَحوَّل مشهد خياطة الأعلام إلى طقس سري من طقوس المقاومة. كانت النسوة يجتمعن في ساعات الليل، يخفتن الأضواء، وينسجن الأمل فوق قماش بسيط، بينما أصوات الجنود ودوي القنابل يتردد من بعيد.
حياكة الأعلام الفلسطينية في الانتفاضة الأولى لم تكن مهمة سهلة ولا عملاً تقليديًا. بل كانت فعلاً نضاليًا محفوفًا بالمخاطر، حيث كانت النساء يدركن أن اكتشاف قطعة قماش بأربعة ألوان محظورة يمكن أن يجر عليهن السجن أو الاعتداء.
لكن رغم ذلك، لم تتراجع أياديهن عن غرز الإبرة في القماش، ولم ترتجف قلوبهن إلا شوقًا للحرية.
المرأة الريفية في تلك الأيام كانت جزءا من المشهد ، في الحقيقة كانت ركنه الصلب. .
عن تلك الفترة تتحدث الحاجة نجلة عياد من قرية سلواد (مواليد عام 1938) وهي شاهدة عيان على المرحلة الأولى من الانتفاضة، ومشاركة فاعلة في أحداث الانتفاضة، حيث كانت تندلع المواجهات قرب بيتها:
"بقينا نطلع أنا وجارتي قبل ما تطلع الشمس نُحضِّر الحجار ونحطهم على البِرْكَة ونجهزهم، ومن السنسلة إلي قبال الدار نحط الحجار الكبار بالشارع سد عالي، والحجار الصغيرة للضرب".
" بقينا نعمل أعلام من الشرايط 40 سم ومن أمور الدار، بس من الشغلات الرسمية بقوا يجيبوا ونخيّط أعلام في البيت مترين ونص"،
بالإضافة إلى تجهيز جماعي من شابات الحارات والمدارس لأكاليل الورد التي كانت تستخدم في جنازات الشهداء وتوضع على أضرحهم.
من الخيط إلى الرمز الأبدي
وفي كل ركن من أركان فلسطين، في كل زاوية من زوايا الذاكرة، سيبقى العلم الفلسطيني حكاية لا تنتهي، حكاية نساء خَطَطْنَ الأمل على قماش الحرية.
المصادر:
- " اطبش واهرب " نساء في المقاومة الشعبية موقع بنفسج
مؤسسة الدراسات الفلسطينية: palestine-studies.org
مقابلات وروايات شفوية موثقة
شبكة متراس: metras.co