recent
أخبار ساخنة

حين تكون الكرة وطنا ، حكاية كرة القدم في الضفة الغربية

 كرة القدم في الضفة الغربية ، حين فقدنا اكثر من مجرد لعبة

في مكان ما بين السماء والارض في احد ارياف الضفة الغربية حيث تتشابك الجبال وتضيق المسافات كنا نبحث عن ثغرة في جسد الجغرافيا العنيد ، مساحة صغيرة نُفرغ فيها أرواحنا الطفولية من قهر الحياة، مساحة نتصارع فيها حول الكرة ، لا لننتصر على خصم، بل لنحاول خداع وجع العيش ،  كانت الجغرافيا تعاند أحلامنا، فأن تجد بقعة مستوية بين هذه الصخور الصلدة، كان أشبه بأن تطلب سهلا من وعورة الجبل، لكننا وجدناها ذات يوم  - او لاكون صادقا ربما وجدها من سبقونا - ربما جيل او جيلين ! 

وهكذا صارت "قمة بانياس" ملعبنا. قطعة أرض لا تتجاوز ربما  الخمسين مترًا، مسطحة بما يكفي لنتوهّم أنها استاد على اتساعه ، لم تكن منبسطة تمامًا، لكنها كانت لنا وهذا يكفي . 

ملعب بانياس كان هدية الطبيعة للأطفال المقهورين، منة الله للمستضعفين والحزانى ،  مساحة الفرح الوحيدة في عالم ضيق ، ومتنفّسًا لأرواح تطارد ظل الطفولة في زمن يختطفها مبكرًا.

هناك، فوق تلك القمة كنا نرسم مملكتنا بحجارة نصطفها حدودا للملعب ، وعندما يركل احدهم الكرة بعنف كانت تتجاوز حجارة مملكتنا و تهرب منا منحدرة نحو قاع الوادي السحيق ، نقف حينها كتماثيل ملح نحدق في الكرة وهي تسقط كنجمة انتحرت من علياء السماء ! فيندفع الاصغر او الاجرأ في رحلة استعادة من الاعماق و ننتظره كمن ينتظر معجزة ، في الحقيقة لم يكن ذلك يزعجنا  بل كان جزءا من لعبتنا فالكرة مثلنا تماما ترفض ان تسجن في اقبية الجغرافيا .

اطفال يلعبون كرة القدم في منطقة جبلية صعبة في الضفة الغربية
صورة تعبيرية




وإن كانت هذه الذكرى قد حضرت من قاع الذاكرة، فهي تمهّد لما سيأتي في السطور التالية، من مقالٍ مستلهم من نصّ الكاتب الاستاذ  مثنّى خميس، 

نعيد فيه سرد الحكاية بطريقتنا، ونضيف إليها ما حملته الذاكرة من نبض الحارات ومساحات اللعب الضائعة.


توطئة : 

لم تكن الكرة المستديرة في حاراتنا مجرد حذاء جلد يرقص فوق تراب الارض. لقد كانت نبضا يشق صمت الحصار، وخطابا سياسيا صامتا يكتبه اطفال باحذيتهم البالية على مساحات الاسمنت والتراب. في الضفة الغربية، تحولت اللعبة الى لسان حال، وشيفرة ثقافية، وميدان معركة اخر حيث تتجلى اشكال الهيمنة والانتماء. كانت الكرة تلم الشمل وتفرقه، تخلق الزعامات وتزعزعها، وتعيد ترسيم حدود النفوذ في الفضاء الضيق خلف الجدار. اكثر من رياضة، كانت طقسا وجوديا.

في طفولتنا السبعينية والثمانينية، ادركنا ان قانون الحارة لا يرحم: من يمتلك الموهبة يمتلك السلطة. كان المهاجم الانيق هو "انفلونسر" زماننا، صاحب الكاريزما التي تجعل الجميع يلتفتون اليه حين يمرر او يسجل. وحين يتحدث درويش عن سحر باولو روسي، او يغلي غاليانو من اجل باجيو، فانهم لا يبالغون. ثمة لحظة سحرية حقيقية حين تدخل الكرة الشباك، كهرباء تسري في الاجساد، وتفقدك القدرة على التفكير المنطقي، وتجعل من حارة مكتظة بالحجر والالم مسرحا للبهجة الصاخبة.

لكن طريق الكرة بين ازقة نابلس وملاعب المونديال لم يكن مستقيما. لقد مرت عبر دروب ملتوية تخيطها السياسة بخيوط الاقتصاد، وتسجل فيها "اهدافا" من نوع اخر. في فلسطين، المباراة ليست مواجهة بين احد عشر لاعبا ضد احد عشر. انها مواجهة مع جدار الفصل، وتحد لقيود التحرك، وصراع مع منظومة احتلال تتحكم حتى في حجم الكرة المسموح بدخولها عبر الحواجز. انها معركة موازية على من يملك حق تعريف الهوية والانتماء عبر هذه اللعبة الكونية.


في الحارة حيث يصنع الابطال في الجمهورية الصغيرة

قبل ان تسحق الشاشات الصغيرة براءة الطفولة، وقبل ان تغزو السيارات كل زقاق، كانت الحارة جمهورية مستقلة بملعبها المفتوح. كل شارع كان استادا، وكل ارض بور كانت كامب نو مصغرا، وكل جدار اسمنتي كان شاشة تعيد عرض الاهداف الاسطورية. لم نكن ننتظر تصريحا لدخول الملعب، كنا نقفز فوق الاسوار، نرسم المرمى بالحجارة، ونبدأ المباراة قبل ان تغيب الشمس.

الدوريات كانت تحمل اسماء الشهداء. في طولكرم مثلا، يتحول فريق "الحارة الغربية" فجأة الى "فريق الشهيد زياد دعاس". لم يكن احد يسال: هل الشهيد من حماس او فتح؟ السؤال لم يكن يخطر على بال. الاسم كان يمثل روح الحارة كلها، وجسد المقاومة التي ترفض الاندثار. الكرة هنا لم تكن تسلية، بل طقسا تأبينيا حيا، ومدرسة لتعليم معنى التضامن، ومنصة لصناعة الزعامات المحلية التي تفرض احترامها بالمهارة لا بالسلاح. كانت الكرة لغة مشتركة تفك عقد الخلافات احيانا، وتذيب الفوارق الطبقية بين ابن القريب وابن الغريب.


في المسجد حين تتحول الكرة الى خطاب اخلاقي

مع بداية الالفية، تحول الجامع من مكان للصلاة فقط الى مركز اشعاع اجتماعي. لم تكن الفكرة مجرد لعب كرة، بل بناء انسان جديد. الانضباط في المواعيد، احترام الخصم، التزام الصلاة، النظافة الشخصية، الروح الجماعية – كلها قيم صارت جزءا من تدريبات كرة القدم. تحولت الميادين المجاورة للمساجد الى اكاديميات لا تقل اهمية عن المدرسة.

"اشبال المسجد" صاروا نجوم الحارة، والجامع اصبح ناديا رياضيا شاملا يفتح ابوابه لكل من يريد المشاركة بغض النظر عن خلفيته. هنا، لم يكن هناك فصل بين العبادة والرياضة، بل تكامل عضوي. سجدة الشكر بعد تسجيل الهدف لم تكن اداء شكليا، بل تعبيرا عن فلسفة حياتية. "الشورت الطويل" لم يكن تزمتا، بل رمزا لالتزام اخلاقي يرفض تحويل الجسد الى سلعة. لقد ادركت الحركات الاسلامية مبكرا قوة الكرة كأداة للدعوة والتأثير، لكنها فعلت ذلك باسلوب ابداعي جعل الرياضة جسرا نحو القيم، وليس حاجزا امامها.


الصالة الرياضية ، الوجه القبيح للتمويل والتدجين

مع تراجع دور الحارة التقليدية وتقلص المساحات العامة، ومع محاولات كبح دور المساجد كمؤسسات مجتمعية، دخلت "الصالة" كمشهد جديد. لم تات هذه الصالات المكيفة من فراغ. كانت جزءا من مخطط اوسع يرافقه تمويل امريكي ضخم عبر الـUSAID، وافتتاحات رسمية برئاسة وزراء السلطة، وبروتوكولات تخلو من روح الرياضة الشعبية.

في العام 2010، مثل افتتاح سلام فياض لصالة رياضية بتمويل امريكي نموذجا صارخا. لم يكن المشروع رياضيا بحتا، بل اداة في مشروع "بناء الدولة" الذي رافقه "الاصلاح الامني" . الاهداف المعلنة: التنمية الرياضية. الاهداف الخفية: تدجين الشباب، تجفيف منابع الغضب الشعبي، تحويل الطاقة الثورية نحو منافسات مسيطر عليها، وترسيخ شرعية كيانية سياسية منزوعة السيادة الحقيقية. صودرت طاولات التنس والشطرنج من ساحات المساجد، وتراجعت الجمعيات والاندية الاهلية المستقلة، لتحل محلها مؤسسات مرتبطة بتمويل السلطة واجندتها.


 من الفعل المقاوم الى الفولكلور الاستهلاكي

تحت شعار "الرياضة غير السياسية" و"اللعب النظيف"، جردت كرة القدم من روحها الثورية. تحول المنتخب الوطني من رمز للمقاومة والصمود الى اداة دعائية لسلطة الحكم الذاتي المحدود. اصبح الوجود في المحافل الدولية هدفا بحد ذاته، بغض النظر عن الثمن السياسي او التنازلات المطلوبة. صورة الفلسطيني "الرياضي" المرتبط بالسلطة والممول من المانحين، حل تدريجيا محل صورة الفلسطيني "المقاوم" المتمسك بحقه وارضه.

اصبحت الكرة نشاطا منزوع الجذور، معزولا عن نبض الشارع. دوري المحترفين الفلسطيني، رغم اسمه البراق، تحول الى مسرح فارغ تقريبا من الجمهور الحقيقي، يدار وفق حسابات بيروقراطية وعلاقات نفوذ. النجومية الفردية، المرتبطة احيانا بفرص الهجرة واللعب في دوريات اجنبية، طغت على مفهوم الفريق والهوية الجماعية. الكرة التي كانت تنبض بقلب الحارة، وتتغذى من حكايات الشهداء، وتنمو تحت اذان المساجد، اصبحت سلعة في سوق التطبيع الهادئ، ومادة في تقارير العلاقات العامة التي تعد بها المؤسسات الدولية حكوماتها.

اطفال يلعبون كرة القدم على شاطئ غزة
اطفال يلعبون الكرة على شاطئ غزة




🏆 الخسارة الكبرى و انطفاء جمرة الروح

الامر لا يتعلق فقط بكرة قدم. انه سردية كاملة عن كيف يتم الاستيلاء على الذاكرة والهوية. لقد خسرنا اكثر من ملاعب او فرق. خسرنا فضاء عموميا كان يعيد انتاج قيم التضامن والمقاومة والانتماء. خسرنا قدرة على تحويل الحزن الجماعي الى طاقة ابداعية عبر الرياضة. خسرنا جزءا من روحنا حين قبلنا ان تكون الكرة مجرد لعبة ترفيهية منزوعة السياق، بدلا من كونها فعلا ثقافيا وسياسيا يعكس واقعنا ويواجه احلامنا.

ان فقدان المعنى هذا ليس مصادفة. انه نتيجة عملية منهجية: عملية استبدال الذاكرة النضالية بذاكرة استهلاكية، والهوية الصلبة بهوية سائلة تقبل بالواقع المفروض، والفضاء الشعبي المستقل بمؤسسات مهترئة تحت الوصاية. الكرة، كمرآة للمجتمع، اظهرت كيف يتم تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني بخيوط ناعمة: التمويل المشروط، البيروقراطية المقيدة، ثقافة الاستهلاك، وتهميش كل ما هو خارج اطار "المشروع" السياسي المسموح به.


 نحو فلسفة رياضية مقاومة

ربما حان الوقت لاستعادة الكرة، ليس عبر الاحلام بالمشاركة في المونديال، بل عبر اعادة ربطها بجذورها. العودة الى حيث اللعب ليس وظيفة بل متعة، وحيث الهوية ليست شعارا على القميص بل انتماء في القلب. نحتاج الى كرة تعود الى الازقة الضيقة، حيث يلعب الاطفال باسم شهيد من حارتهم، دون ان يطلبوا تصريحا من احد. الى جامع يفتح بابه ليس للصلاة فقط، بل ليكون ملتقى حيويا للشباب، مكانا لتبادل الافكار وضرب الكرة وتدوير طاولة الشطرنج. الى "تيشيرت" ممزق لا يحمل شعار رعاة رسميين، بل يحمل رائحة تراب الملعب وعرق الجهد الحقيقي.

استعادة الكرة تعني رفض تحويلها الى مجرد اداة في لعبة السياسة الكبرى. تعني ادراك ان تسديدة نحو المرمى، في سياقنا، يمكن ان تكون فعلا ثقافيا مقاوما. انها دعوة لاعادة الروح الى الجسد، وللجسد الى الملعب، وللملعب الى قلب المجتمع. لقد اخذوا منا الكثير، فلا نسمح لهم بسرقة اخر ما تبقى من براءة وفرح جماعي. الكرة ملكنا، وعلينا ان نلعبها كما نريد، لا كما يملى علينا.


اقرأ ايضا : 

تصفية العملاء خلال الانتفاضة الاولى 

google-playkhamsatmostaqltradent