المنشورات خلال الانتفاضة الاولى ، إعلام لا يحتاج إلى إذن
لا تزال تلك اللحظة محفورة في ذاكرتي، كأنها مشهد سينمائي أبيض وأسود لا يتقادم ، كنت طفلًا لم يتجاوز السابعة، أمشي بجانب عمي في شارعٍ معتم، في زمنٍ لم يكن يعرف ترف إنارة الشوارع، ولا دفء الأمان.وفجأة، ومن بين عتمة الحقول، خرج علينا ملثم... لم ينبس ببنت شفة، لم يهدد، لم يتردد.مدّ يده بورقة صغيرة لعمي، ثم انسحب إلى الظلمة التي جاء منها، كما لو كان ظلًا للانتفاضة ذاتها.
أذكر أنني شعرت بالخوف ، ليس من الخطر، بل من هيبة المشهد، من صمته، من تلك الورقة التي بدت وكأنها مشحونة بالكهرباء.طواها عمي بعناية، وقال: "نقرأها عند الضوء"، وكأن النور وحده يليق بما تحمله من كلمات.ومنذ تلك اللحظة، كلما سمعت أحدهم يقول "منشور"، أتذكر ذلك المساء، وأتلمس في الذاكرة ملمس الورقة ورائحة الأرض الرطبة، وصوت الخطى في العتمة.
كيف ظهر الاعلام الابداعي البديل المسمى "منشورات " ؟
في زمن ما قبل الإنترنت والهواتف المحمولة، حيث لم تكن هناك شبكات تواصل اجتماعي أو منصات رقمية وفي ظل القمع الممنهج والمضايقات المستمرة التي تعرضت لها الصحافة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال سنوات الانتفاضة الاولى ، برزت الحاجة الماسة إلى تأسيس إعلام بديل، ينبع من الناس، ويعكس نبضهم الحقيقي دون تدخل أو رقابة من سلطات الاحتلال الإسرائيلي.تجسد هذا الإعلام في صور متعددة، أبرزها تلك المنشورات والبيانات
وهي المنشورات المطبوعة يدويًا أو آليًا، التي توزّع ليلًا أو فجرًا في الأحياء والمخيمات والشوارع الخلفية. كانت تلك الورقات البيضاء المضمّخة بروح الانتفاضة أقوى من كثير من المنصات الرسمية، لأنها ببساطة لا تمرّ من "مقص الرقيب"
كانت تصدرها التنظيمات والمؤسسات الفلسطينية، فكانت بمثابة همزة الوصل بين القيادة والجماهير. برسائل مباشرة وتعليمات دقيقة، استطاعت هذه البيانات أن تحافظ على التماسك الشعبي، وتبث روح الاستمرار رغم شراسة القمع.
ببساطة ، كانت الكلمة تُنقل يدًا بيد، ويُلقى بها في العتمة من يد ملثم إلى الناس، أو تُوزَّع ليلًا على عتبات البيوت وبين الأزقة، أو تُلقى في خضمّ مسيرة صاخبة، فتدوّي في الميدان كما لو كانت نشرة أخبار حيّة منشورات صغيرة تحمل كلمات كبيرة،.هكذا ولدت ظاهرة إعلامية ميدانية فريدة اسمها المنشورات. لم تكن مجرد ورق، بل وسيلة بديلة قاومت مقص الرقيب، وبشّرت بميلاد إعلام شعبي ثوري يعبّر عن نبض الانتفاضة كما لم تفعل أي وسيلة أخرى.
المنشور كأداة تنظيمية وتعبوية
لم تكن هذه المنشورات مجرد وسيلة إعلامية، بل كانت جزءًا من آلية التنظيم الشعبي للمقاومة. لقد أعادت تعريف العلاقة بين القيادة والجماهير، وربطت ما بين القرار السياسي والميدان، دون الحاجة إلى هوائيات أو قنوات أو حتى صحف.
بل يمكن القول إنها شكّلت "نظامًا إعلاميًا ثوريًا بديلًا"، تجاوز الهياكل التقليدية، وحرّض على الفعل، وساهم في بناء الوعي الجمعي المقاوم.
أهم المنشورات والبيانات خلال الانتفاضة الاولى
1 - نداءات القيادة الموحدة: منشورات ثورية تنظّم الميدان وتؤطر الشارع
كانت المنشورات انعكاسًا لمنظومة تنظيمية دقيقة، تجسدت بشكل بارز في ما عُرف باسم "نداءات القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة" (ق.و.م). هذه النداءات لم تولد عشوائيًا، بل كانت ثمرة مشاورات بين فصائل منظمة التحرير في الداخل، بدأت أولى بوادرها في قطاع غزة منتصف ديسمبر 1987، عندما صدر أول بيان تحت توقيع "القوى الوطنية"، واتخذ منذ لحظته الأولى طابعًا يساريًا ملتفًا حول منظمة التحرير، داعيًا إلى تصعيد الانتفاضة ضمن أدوات محددة.
سرعان ما تطور هذا النموذج، فمع إصدار البيان الثاني في 9 يناير 1988، ظهر التوقيع الرسمي: "القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة في الأراضي المحتلة / ق.و.م"، ثم البيان الثالث الذي وحّد التوقيع بين جميع الفصائل تحت مظلة واحدة، ليُصبح لاحقًا الصوت المركزي الذي لا يعلو فوقه صوت، بحسب شعارات تلك المنشورات نفسها.
وقد تميزت تلك النداءات بالتنظيم الشامل، إذ قُسّمت إلى نوعين:
- بيانات مركزية تُصدرها القيادة الموحدة بشكل عام على مستوى الضفة وغزة.
- بيانات محلية تُعدّها فروع القيادة في مدينة أو حيّ أو قرية معينة، مع التزام كامل بالتوجه السياسي الصادر من المركز.
كانت النشرات تبدأ بعناوين صارخة مثل:
"نداء - لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة"، أو
"نداء - لا صوت يعلو فوق صوت شعب فلسطين"،
وتُختتم دائمًا بتوقيع:
"منظمة التحرير الفلسطينية – القيادة الموحدة للانتفاضة (ق.و.م)"، وتاريخ الإصدار.
بين التوجيه والتعبئة والتحذيرأدت هذه المنشورات وظائف متعددة، لم تقتصر على التوجيه التعبوي، بل شملت:
- تسليط الضوء على الوضع السياسي وتطورات الانتفاضة.
- إعطاء تعليمات واضحة للجان الشعبية حول الإضرابات، المسيرات، والمواجهات.
- رفع معنويات الجماهير، وتحية الأسرى والجرحى والمبعدين.
- التحذير من محاولات الاحتلال للفتنة وبث الشائعات بين الفصائل.
- التأكيد على دعم صمود الشعب الفلسطيني، والتحذير من تسارع الاستيطان.
تجدر الاشارة الى ان هذه البيانات لم تكن محصّنة من الاختراق؛ فبعض نداءات القيادة حملت تناقضات عكست الخلافات الداخلية بين الفصائل، مما فتح الباب أمام الاحتلال لمحاولة تزوير منشورات مشابهة لإحداث البلبلة وإرباك الشارع، وهي ممارسات حذّرت منها القيادة مرارًا داخل نداءاتها.
ورغم ذلك، بقيت "المنشورات"حجر الزاوية في الإعلام الميداني المقاوم خلال الانتفاضة، حيث شكّلت مزيجًا بين التوجيه السياسي والإعلام الجماهيري والتوثيق الثوري، وأثبتت أن الإعلام يمكن أن يولد من حبر بسيط على ورقة، ما دام يحمله مشروع مقاومة حقيقي.
2- منشورات حركة ح م س: صوت ديني تعبوي في وجه الاحتلال والتهميش السياسي
في موازاة نداءات القيادة الموحدة للانتفاضة، برز على الساحة الإعلامية والميدانية نوع آخر من المنشورات، جاءت هذه المرة من تيار لم يكن منضويًا تحت مظلة منظمة التحرير، تحديدا حركة ح مس ، التي اتخذت من الورقة المطبوعة وسيلتها الأولى للظهور السياسي العلني.
انطلقت ح م اس رسميًا يوم 14 ديسمبر 1987، لكن البعض يرى أن البيان الأول الذي وُزع في 9 ديسمبر 1987 هو لحظة الانطلاق الفعلي، وهو بيان خُط في منزل الشيخ أحمد ياسين عقب حادثة الدهس الشهيرة لعمال فلسطينيين. تميّز هذا البيان الأول بلغته الإسلامية العاطفية وافتتح بآية:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، وضمّن شعارات تحريضية وتحذيرية في آن، مع التركيز على تسميتها العلنية للأحداث بـ"الانتفاضة"، وهو ما يرجّح بعض الباحثين أن لحماس الفضل في إطلاق هذا المصطلح.
في بداياتها، لم تحمل بيانات الحركة أرقامًا أو تواريخ واضحة، وكانت تُوقع ببساطة باسم: "حركة المقاومة الإسلامية"، قبل أن تعتمد لاحقًا الاختصار الرسمي "حـ م اس" الذي اقترحه القيادي حسن القيق.
بدأ توزيع منشوراتالحركة من قطاع غزة، ثم تسللت إلى الضفة الغربية والقدس عبر شبكات تنظيمية صغيرة يقودها أفراد مكلّفون خصيصًا بذلك، مثل جميل حمامي. وقد حرصت الحركة على تأمين طباعة بياناتها بسرية، ما جعل تزوير منشوراتها أكثر صعوبة مقارنة ببيانات "ق.و.م".
شكل ومضمون متمايز
بدءًا من البيان رقم 29، استقر الشكل الإخراجي لبيانات الحركة على قالب بصري ثابت:
- افتتاحية ببسملة وآية قرآنية (غالبًا: "هذا بيان للناس ولينذروا به").
- رقم البيان داخل مستطيل أسود أعلى يمين الورقة.
- ختام معتاد: "الله أكبر ولله الحمد – حركة المقاومة الإسلامية حماس – فلسطين"، مع التاريخين الميلادي والهجري.
وعلى صعيد المحتوى، اتسمت بيانات الحركة بـالطابع الديني التعبوي، حيث امتلأت بالآيات والأحاديث، إلى جانب رؤى سياسية واجتماعية أوضحت موقف الحركة من الأحداث، وانقسمت عادة إلى خطابين:
- خارجي: يوجه رسائل للعالم العربي والإسلامي.
- داخلي: يركز على توجيه الجماهير في الضفة وغزة.
كما تطرقت هذه المنشورات إلى:
- تحديد الفعاليات والإضرابات والمواجهات.
- رفع الروح المعنوية للقواعد الشعبية والقوات الضاربة.
- التحذير من ممارسات الاحتلال والاستيطان والتهويد.
- التحذير من سرقات أو تجاوزات تُرتكب باسم المقاومة.
- رفض البيانات المزورة التي كانت تُسرب لإحداث الوقيعة.
وبحسب الإحصاءات، بلغ عدد منشورات الحركة حتى نهاية 1989 57 بيانًا، مقابل 51 لقيادة ق.و.م، مع حرص ملحوظ على موازاة توقيت صدورها مع بيانات القيادة الموحدة، وكأن الحركة تخوض معركتين: ضد الاحتلال، وضد الإقصاء السياسي من المشهد الوطني السائد.
.3- بيانات التنظيمات الفلسطينية األاخرى
لم يقتصر إصدار البيانات والنداءات على القيادة الموحدة لالنتفاضة وحركة ح اس؛ بل شاركت العديد من الفصائل في إصدار البيانات، وان كانت بصورة أقل من حمس و(ق.و.م) سيما حركة الجهاد اإلسالمي التي أصدرت 25 بياناً حتى خريف عام ،7661 ولكن غالبية تلك البيانات فقدت بسبب ضعف التوزيع وأر شفتها حتى من حركة الجهاد اإلسالمي، وذلك بفعل المالحقة الامنية القاسية التي تعرضت لها تلك الحركات من سلطات االحتالل اإلسرائيلي.
سلطة الاحتلال وهاجس الورقة الصغيرة
رغم بدائيتها، كانت هذه المنشورات تمثّل كابوسًا للاحتلال الإسرائيلي. ففي كل منشور ــ مهما بدا بسيطًا ــ تهديد مباشر للاحتلال: إضرابٌ شامل يُشلّ الحياة الاقتصادية، أو مظاهرة تُشعل حيًا بالكامل.
لذلك، لم تكن عمليات المداهمة تقتصر على السلاح أو المواد المتفجرة، بل كان الجنود يفتشون عن أوراق مطبوعة، ويعتقلون شبانًا فقط لأنهم يحملون منشورًا مطويًا في الجيب الخلفي.
ختاما
المنشور، في زمن الانتفاضة الأولى، لم يكن مجرد ورقة؛ بل كان رمزًا لإرادة التعبير، ومنصةً بديلة واجهت رقابة الاحتلال بعناد الكلمة الحرة.
علّمتنا تلك الورقة الصغيرة أن الإعلام، حين يُمنع من المرور عبر أبواب القنوات الرسمية، يجد طريقه من النوافذ، بل ومن الجدران ذاتها.